رشيدة أحفوض: صوت العدالة على الشاشة الصغيرة

0

حسين الحساني: القلة القليلة تحفظ اسمها عن ظهر قلب. والسواد الأعظم يعرف وجهها حق المعرفة. اسم برنامجها يكفي للدلالة عليها. كيف لا وبرنامج رشيدة أحفوض أشهر من نار على علم، يعرفه الصغير قبل الكبير.

اعتاد الجميع على صوتها، فتسللت كلماتها الرصينة إلى قلوب المغاربة قبل عقولهم. فهي مفردة بصيغة الجمع. نجحت في إدخال المحكمة وردهاتها إلى بيوت المغاربة ببرنامج حقق طيلة سنوات نسب مشاهدة عالية على الشاشة الصغيرة. برنامج يتغيى تحقيق العبرة قبل الفرجة.

فكلما نشب الحديث، داخل البيوت ووسط العائلات، عن ملفات المحاكم وتفاصيلها، إلا وكان اسم “مداولة” حاضرا على مائدة النقاش. هذا البرنامج الذي بقي صامدا في وجه السنين وأبى الخضوع لتعاقب الفصول وأعراف التلفزيون.

“كانت مدرستنا تقع بمحاذاة إحدى المحاكم. وبمجرد سماعي رنين الجرس، كنت أهرول خارج أسوار المدرسة متجهة صوب الجموع المحتشدة قبالة المحكمة، فأقترب من النساء الواقفات لكي أتلقف دردشتهن حول ما حدث وصار داخل بيت القضاء”، تتذكر المحامية أحفوض بحنين صادق.

في ذلك الوقت كانت المحاكم تستقطب كثيرا من رجال ونساء يتتبعون مجريات المحاكمات إبان جلساتها العمومية. وكانت رشيدة تنقل لوالدتها على الفور ما التقطته أذناها من حديث عن “ظنين” و”جان” و”جريمة” و”حكم” و”حبس”…

وكانت صاحبة فكرة “مداولة” تطلب من والدتها أن تضرب هي الأخرى موعدا مع جموع النساء لتتابع ما يدور في رحى المحكمة بغية إنماء وعيها القانوني وثقافتها في مجال القضاء، بيد أن الأم لم تكن تجد لذلك سبيلا بسبب مشاغل الحياة وأثقالها، تقول رشيدة.

“هكذا راودتني الفكرة. وقلت لنفسي، مدفوعة بشقاوة الصبا، إذا لم يكن بإمكانها الذهاب إلى المحكمة، فلم لا تأتي هي إليها”، تقول الأستاذة بالمعهد العالي للقضاء قبل أن تعترف أن والدها، وهو مقاوم معروف، كان له هو الآخر يد في ذلك: “كان يحثني منذ نعومة أظافري على خدمة وطني حين يشتد عودي”. وكان له ما أراد.

فما كانت أشهر قاضية بالمغرب لتخذل وصية والدها القديمة، حتى ولو كلفها ذلك التخلي عن عشقها للرياضيات لتعتنق فقه القانون والقضاء. تتذكر معدة ومقدمة برنامج مداولة قائلة “تخليت عن عشقي لكي أحقق حلمي. درست وتعبت واجتهدت لتحقيق هدفي”.

وبعد أن محا النضج شقاوة الصبا، واشتد عودها ،وفرضت وجودها في بيت القضاء، دقت السيدة أحفوض أبواب الإعلام بفكرتها المبتكرة. “الإعلام صدفة جميلة في حياتي. أهداني حب الناس، وهذا كنز لا يقدر بثمن”.

وهكذا، رأى حلمها النور ذات يوم من سنة 2001، حين بثت أولى حلقات برنامج “مداولة ” في قالب سلسلة قانونية تثقيفية اجتماعية تعرض وقائع حقيقية تستمدها من وحي الملفات التي تدور في ردهات المحاكم.

ولم يكن يتوقع أشد المتفائلين أن هذا البرنامج الذي يواكب القضايا والنقاشات السائدة لدى الرأي العام سيبقى حيا يرزق بعد مرور عشرين سنة تقريبا على ميلاده.

تقول الرئيسة السابقة للجمعية المغربية للقضاة “أحمد العلي القدير على هذا النجاح. عندما نشتغل بصدق وحب وجدية نجني الثمار حتما. والفضل يعود أيضا للطاقم التقني والفني المحترف الذي يشتغل إلى جانبي”، مضيفة أن السر الآخر وراء هذا النجاح هو “معالجة البرنامج قضايا تهم الجمهور الواسع وكذا تركيزه على نشر الثقافة القانونية بطريقة مبسطة”.

لقد كان النجاح هذه المرة أيضا بصيغة الجمع. إذ ساهم البرنامج في التعريف بالعديد من الوجوه الفنية الشابة الصاعدة من قبيل “نبيلة حرفان وصباح بن الصديق، وحتى سناء عكرود سجلت ظهورها الأول على الشاشة الصغيرة من خلال برنامجنا”.

وبما أن الحياة بطبيعتها ليست وردية، فلا بد من تعاقب الأفراح والأتراح. وهنا اعترفت صاحبة العديد من المؤلفات القانونية بأن حدثين فقط لن تنساهما. تقول رشيدة أحفوض في هذا الصدد “قضيت أربعين سنة في سلك القضاء، وليس هناك ما هو أحب إلى قلبي من رؤية الفرحة في أعين الأبرياء عند النطق بالحكم. كما ليس هناك ما أدمى قلبي أكثر من قصة شخص تعرض لحادث شغل قاتل. فقد انتظر وزوجته عشر سنوات ليرزقا بمولودهما الأول، ولكنه لم يكن يعرف أن ميلاد الابن سيبصم على شهادة وفاة الأب”، تتذكر رشيدة ببالغ الأسى.

وبخصوص الخطوط الحمراء التي قد تحول دون مناقشة البرنامج لمواضيع معينة، تقول الحاصلة على دكتوراه في القانون الخاص “الخط الأحمر الوحيد هو صدور حكم نهائي في القضايا التي يعالجها البرنامج. لا يمكن أن نصنع الأحكام من عندياتنا”، مؤكدة أن فريق العمل لديه صلاحية تامة في انتقاء المواضيع والقضايا دون أي تدخل خارجي.

أما عن كواليس تحضيرات البرنامج، تسرد الأستاذة أحفوض “أقوم بعملي انطلاقا من تخصصي القانوني، فأكتب السيناريو التمهيدي ثم الجلسة والمرافعات، وبعدها يتكلف بالبقية كاتب سيناريو من خارج حقل القضاء والقانون”.

وأكدت على أن برنامجها لا يتوخى الفرجة فقط، بل يتغيى تمرير رسالة واضحة مفادها أن اقتراف الجريمة يؤدي إلى السجن “برنامجنا يضطلع بدور ردعي، لذا نحرص في برنامجنا على أن ينال المجرم عقابه في الأخير”.

لا يختلف اثنان على أن هذه المرأة، المعروفة بدماثة خلقها وصرامتها العلمية، قدمت صورة مشرفة عن القضاء المغربي الكفء المنشغل بهموم المجتمع وقضاياه. فقد حققت نجاحا قضائيا وإعلاميا قل نظيره، وتحولت إلى سلطة مرجعية يعتد بها.

احتفي بعطائها داخل الوطن وخارجه، من قبل مؤسسات ومهرجانات ونقابات ومنظمات وجمعيات. فنحن نقول عنها إنها خير مثال للمرأة المغربية المجتهدة والمثابرة، وهي تقول عن نفسها إنها ليست مختلفة عن بقية بنات جلدها. “عندما يصنع الإنسان عملا من صلبه وقلبه، فهو حتما سيتسلل إلى القلوب والعقول معا”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.