في خطاب موجه للشعب الروسي، وبالضبط في 30 سبتمبر 2022، حدد الرئيس بوتين طبيعة الخصوم الرئيسيين لفدرالية روسيا، جاعلا من أوكرانيا والغرب على رأس لائحة الجهات التي تكن عداء مطلقا لموسكو، خاصة بعد ثورة 2004 و2005 بأوكرانيا، وصولا إلى المظاهرات المطالبة بالارتباط بأوروبا وإعلان القطيعة مع روسيا، كما تجسد في حركة “أوروميدان” Euromaidan.
بوتين لمواجهة هذا التحول الجيو إقليمي، الذي يعتبره تهديدا لأمن روسيا من طرف نظام يصنفه بأنه نازي، خاصة بعد سنة 2014، اعتمد على نظرية التحصين، وذلك بالعودة الدائمة إلى فترات التعبئة الكبرى التي عرفها الشعب الروسي، والتي تجسدت في الحرب العالمية الثانية، عندما هزم الروس ألمانيا النازية. لكن بإطلالة تاريخية سريعة ومقتضبة نكتشف أن عمق الأشياء يعود إلى مسار طويل ومعقد، يتطلب فهمه واستيعابه نوعا من النبش في جذوره، فبعد انهيار ألمانيا وهزيمتها خلال الحرب العالمية الأولى ظهرت أواخر سنة 1918 جمهورية شعبية أوكرانية يقودها مجلس جماعي، تميز بداخله شخص عرف باسم “سيمون بتلورا” « symon petlioura ». هذه المحاولة ستصطدم بتقدم القوات البلشفية سنة 1919، والتي سيطرت على جزء كبير من الأراضي الأوكرانية، وظهور الفاعل البولوني الذي استفاد من إعادة ترتيب الخريطة الأوربية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم مخلفات الحرب الروسية البولونية لسنة1921، التي جعلت الجهة الغربية لأوكرانيا خاضعة لبولونيا، والباقي دخل تحت هيمنة الجمهورية الاشتراكية السوفياتية لأوكرانيا.
بعض الوجـوه التاريخية الأوكـرانية لم ترض بذلك، مثـل “ستفيان بندرا” « Stepan Bandera »، الذي نظم عمليات ضد مسؤولين بولونيين، أدت إلى اغتيال وزير الداخلية البولوني “بغونيسلا بريشاك” « Bronisla pierack ».. في يونيو 1934 حكم عليه بالإعدام “بفارسوفيا” سنة 1935، وتحول الحكم إلى سجن مؤبد، وأطلق سراحه سنة 1939، بعد دخول الجيش النازي إلى بولونيا، واستأنف نشاطه السياسي لكن تحت مراقبة الألمان؛ وعندما سيطرت القوات النازية على مدينة “ليفيف” « leviv «، استغل الفرصة وأعلن عن استقلال أوكرانيا انطلاقا من هذه المدينة سنة 1941.. عارض الألمان ذلك، وتم القبض عليه، ونقل إلى برلين، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية في معسكر “ساشهاشن” « sachsenhasen »، وظل هناك إلى حدود سبتمبر 1944، حيث فر إلى سويسرا، كما تعرض لعملية اغتيال سنة 1959 في موينخ بألمانيا من طـرف المخابرات السوفياتية آنذاك، “بندرا” « Bandera »، وتحول إلى رمز وطني.. الرئيس الأوكراني الأسبق ” فيكتـور ايشتيكو” « Viktor inchtchenko »، جعل منه قائداً وطنيا، ما اعتبره الروس استفزازا غير مقبول. بعد هذا الحدث، وافق برلمان أوكرانيا سنة 2006 على تصنيف مجاعة سنوات 1932 و1933 ضمن عمليات الإبادة الجماعية التي قام بها ستالين. جواب بوتين في ما بعد هو تدشين معرض صور لزعماء روسيا يتوسطهم جوزيف ستالين.
وتابعت موسكو النقاش الذي عرفه البرلمان الأوكراني سنة 2015، وتمخض عنه ظهور مجموعة من القوانين المتعلقة بالذاكرة، مهدت الطريق لتحطيم عدد من النصب التذكارية التي تعود إلى حقبة الاتحاد السوفياتي، مع مبادرة فتح بعض أرشيفات المخابرات الروسية التي تحتفظ بها “كييف” دون التنسيق مع موسكو، ودون الأخذ بعين الاعتبار أن فيدرالية روسيا تعتبر أن من مهامها الأساسية حماية وتحصين الإرث التاريخي، حفاظا على تماسك الكيان الروسي، معتبرة أن حقبة الاتحاد السوفياتي هي جزء لا يتجزأ جزء من هذا الكيان، هذه القناعة عبر عنها الدستور الروسي في الفصل 67.1 الذي تمت مراجعته سنة 2020، قبل ذلك سنة 2014، كل الكتب المدرسية في روسيا خضعت لمراجعة جذرية حتى تنسجم مع الاختيارات التي تسعى إلى تعميق الارتباط باللحظات التاريخية الكبرى، ومنها المحطات المشتركة مع أوكرانيا، لاسيما أن بين 1941 و1945 جيل بأكمله حارب في صوف القوات السوفياتية. خلال أربع سنوات تمت تعبئة 7 ملايين أوكراني، 2.5 مليون منهم قتلوا أو تم أسرهم، بل إن بعض المصادر التاريخية تقول إن ربع الخسائر البشرية الروسية خلال الحرب العالمية الثانية هي أوكرانية.
النفقات العسكرية الأوكرانية في ارتفاع مستمر منذ سنة 2014، خاصة بعد ضم الروس منطقة القرم، وصلت إلى 5.3 مليارات دولار سنة 2021، أي 9.2% من الناتج الداخلي الخام، لكن 11 مرة أقل من روسيا التي وصلت نفقاتها إلى 65.9 مليارات دولار، أي 4.1% من الناتج الداخلي الخام. ومعلوم أنه مباشرة بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، الاتحاد الأوروبي كان قدم دعما ماليا أوليا وصل في تلك الفترة إلى 500 مليون أورو، منها 450 مليون في شكل أسلحة. وبالإضافة إلى الجانب المالي، وقع متغير جديد في المشهد الجيو إستراتيجي الأوروبي، يتمثل في خروج السويد وفنلندا من حيادهما وانخراطهما في الدعم العسكري لأوكرانيا، كما قدما طلبا للالتحاق بالحلف الأطلسي؛ مع العلم أن ثلاث دول داخل الاتحاد الأوروبي هي النمسا وقبرص وهنغاريا رفضت تقديم الدعم العسكري المباشر لـ”كييف”.
حسب المعهد الألماني “كيل”، الدعم الأوربي مجتمعا، سواء كان من داخل الاتحاد الأوروبي أو من دول أوربية خارج الاتحاد، تعدى 70 مليار دولار. الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد انسحابها المفاجئ من أفغانستان، كانت لها رغبة في التوجه نحو آسيا لخلق التوازن المطلوب مع الصين. انفجار الوضع في أوروبا دفع البيت الأبيض إلى البحث عن الوسائل والآليات لوقف المد الروسي، من خلال تسليح أوكرانيا، بحيث تحولت واشنطن إلى أول دولة مساندة لـ”كييف”، بمبلغ وصل إلى 47.82 مليار أورو، منها 22.86 مليار أورو، في شكل دعم عسكري لاقتناء الأسلحة. ومجموعة من الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي حاضرة هي الأخرى في هـذه المساهمات المالية، خاصة بريطانيا ب 7.08 مليارات أورو، وكندا بـ 3.78 مليار أورو.
تجلى هذا من خلال إعطاء أهمية لبعض الأسلحة، نظرا لدورها الفعال، مثل صواريخ جو/جو، فخلال الحرب الروسية الأوكرانية لوحظ استعمال هذا النوع من الصواريخ، مثل R-37M، من طرف القوات الجوية الروسية؛ كما تابع المهتمون قرار الصين تجهيز طائرتها أثناء تحليقها بالقرب من “تيوان” بصواريـخ « PL-15 »، كرد فعل آنذاك على زيارة رئيسة البرلمان الأمريكي للمنطقة. وبالعودة إلى الوراء نجد أن هذا النوع من الأسلحة كان عنصرا مهما في التوازنات الجيو إستراتيجية، بدليل أن القوات البحرية الأمريكية جهزت خلال السبعينيات طائرة « Tomcat F14 »، بصـواريــخ جو/جو « « AIM-54 Phoenix؛ هذه الأخيرة كان بمقدورها إسقاط المقاتلات الروسية على بعد 120 كلم، لكنها لن تعمر طويلا نظرا لحجمها ووزنها، كما أن الاتحاد السوفياتي سابقا طور صاروخا من نفس النوع، كان يعــرف باسـم « R-33» لتجهيز طائرة « « MIG-31.
في الاتجاه نفسه الولايات المتحدة الأمريكية استطــاعت تعويض « «AIM-7، بصـاروخ جو/جو آخــــر هـــــو «AIM-120 »، خفيف الوزن له السرعة في إصابة الأهداف. فرنسا هي الأخرى كانت قد دخلت حلبة السباق لتعويض صاروخ الاعتراض « « Matra R550 Magic 2، بتطوير « «MICA، في خضم هذا التسابق، روسيا لم تبق مكتوفة الأيدي، طـورت صاروخ « « R-77، لتعويض « « R-27. وجدير بالذكر أنه ولمدة طويلة وسوق إنتاج هذه الصواريخ كان مركزا على المدى المتوسط، لكن بداية سنوات 2002، وبعدما تخلت القوات الأمريكية سنة 2006 عن صاروخ «Phoenix »، أوروبا وبشكل شبه جماعي وخوفا من هيمنة روسية في هذا المجال سارعت من خلال تكتل ضم كلا من بريطانيا وألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد إلى تمويل إنتــاج صاروخ أطلـق عليه اسم « « Meteor، لتجهيــز الطائرات الحربية مثل “تيفون” Typhoon » « “ورفال” « le Rafale » و”كـربـن” « le Gripen ». وتكلفت بالمشـروع شركـة « «MBDA، التي تمـلك فيهـا شركة “إيربـاص” 37.5%، وشـركة « BAE systems » 73.5% و”ليوناردو” %25 « leonardo ».
ومعلوم أن هذا التوجه كان قد أزعج واشنطن، مادام أن هذه الأخيرة متحفظة من انتشار هذا النوع من الصواريخ، ثم الصين التي تخشى وصولها إلى جيرانها. العكس هو الذي حصل، ظهرت منافسة غير مسبوقة، ففي أوروبا الاتجاه العام هــو تجهيز الطائرات بصواريـخ « Meteor »، التي يصل مداها إلى 100 كلم، استوردتها كل الدول التي تتوفر على الطائرات الحربية المذكورة سلفا، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية التي جهــزت بهـا طائراتها الحربية « KF-21»، التي تنتجـها شركـة « « Korea Aerospace Industries. الصين وخوفا من تفوق غربي في هذا المجال، انطلقت من صاروخ « PL11 « ومن الصاروخ الإيطالي » «Aspide، لإنتاج صواريخ « PL12 » و« PL-12A »، ثم انتقلت بسرعة إلى إنتـاج صاروخ « « PL15، جهزت به المقاتلات الصينية J-20، بمدى يصل إلى 150 كلم. بيكين لديها قيد الدراسة صاروخ جديد أطلق عليه اسم « PL-XX »، إلا أن الطائرة الصينية المشار إليها سابقا لا تستطيع حمله، ومن المتوقع أن يصل مداه إلى 300 كلم، هدفه هو التصدي واعتراض الطائرات الأمريكية الكبيرة ومتوسطة الحجم، مثل طائرة “الأواكس”.
الولايات المتحدة وانطــلاقا من هاجس التفــوق الصينــي، اضطرت لدخول حلبة المنافسة بالاشتغال عـــلى صـاروخ أطلـق عليـه اسم « JATMLAIM260 » « Joint Advanced Tactical Missile »، لينافس الصاروخ الأوربي “ميتيور” والصيني « PL15 »، له مدى يصل إلى 200 كلم، تكلفت بإنتاجه شركة “لوكهيدمارتن”. والهند هي الأخرى لها اهتمام، انطلقت من صاروخ « AstraMK-1 » لتصل إلى إنتـاج « MK-2 ». وتركيا طورت في هذا الاتجاه صاروخا أطلقت عليه اسم « « Skykhan، وإسرائيل بصدد إنتـاج صاروخها المعـروف بـ « Rafael derby »، تصنعه شركة «Rafael Advanced defense systems »، دون نسيان اليابان وتايوان.
في الملتقى الدولي حول الأمن، الذي انعقد في نونبر الماضي بمدية ” هاليفاكس”، بكندا “، رئيس اللجنة العسكرية للحلف الأطلسي، الأميرال “بوب بويير”، تحدث عن مجموعة من المخاطر، على رأسها النقص الحاد في الذخيرة لجزء كبير من الجيوش الدول المنخرطة في حلف “الناتو”، نتيجة استعمالها المخزون الإستراتيجي الذي تتوفر عليه لتزويد أوكرانيا. والإشكال نفسه تعيشه روسيا.
هذا التحدي الذي يصطدم به الغرب ليس وليد اليوم، فقبل اندلاع هذه الحرب بعض التقارير كانت قد أشارت إلى أن الجيشين البريطاني والفرنسي، وفي حالة نشوب حرب عالية الكثافة، ستعرف مخازنهما من الذخيرة الحية نقصا مهولا، لاسيما بعد تفكيك قطاعات صناعية أساسية في مجال الذخيرة. بــل إن دراســة للمؤسسـة البريطانية « RUSI Royal United services Institute « وبالأرقام وضحت أن ذخيرة المدفعية الأمريكية لا تستطيع تجاوز بضعة أيام في حالة وقوع مواجهة بنفس كثافة الحرب الأوكرانية الروسية، مع ما يتطلبه ذلك من حاجة ملحة لقطاع الغيار كركيزة لوجستيكية حاسمة في مثل هذه المعارك، ودون إغفال أن جزءا كبيرا من المواد الأولية للتصنيع الحربي توجد في مناطق متعددة في العالم، ترتفع أسعارها كلما كثر الطلب عليها.
الحرب الدائرة في أوكرانيا ظاهرها هو المواجهة العسكرية البرية، مع انتقال محدود إلى استعمال الجو، لكن الخفي هو الصراع على استغلال الفضاء، قصد الحفاظ على صبيب الأنترنيت، نظرا لدورها الإستراتيجي بالنسبة للطرفين، خاصة الجيش الأوكراني، الذي تساعده على الانتشار السريع للقوات الخاصة، والتواصل الدائم مع شبكات الاستخبارات الميدانية المتواجدة بالمناطق التي يسيطر عليها الجيش الروسي، إلى غير ذلك من المهام. ولتحقيق التفوق المطلوب في هذا المجال، بادرت ” كييف” إلى الاتصال بـ “إليون مسك” « Elon Musk»، صاحب شركة «spacex»، لفتح الشبكات المرتبطة بالأقمار الصناعية مثل « starlink»، المتخصصة في التزويد بالأنترنيت من خلال شبكة فضائية لا تحتاج إلى التجهيزات الأرضية. وبدأ الاشتغال بهذه التكنولوجيا المتقدمة من طرف الشركة الأمريكية منذ سنة 2018، والتي وصلت سنة 2022 إلى 2000 من الأقمار الاصطناعية صغيرة الحجم، تستطيع الدوران قرب الأرض، وتسمح بالاستفادة من الأنترنيت شريطة التوفر عـلى مجمــوعة محددة «kit spécifique»؛ وذلك بالرغم من الأعطاب التي قد تصيب المحطات الأرضية المخصصة لهذا الغرض.
هذا التحول العلمي والتكنولوجي المهم في مجال الاتصالات شكل منافسة قوية للمشروع الأوروبي الذي يسعى إلى البحث عن السيادة الفضائية، ونافس كذلك التطور الصيني في هذا المضمار، لكنه يطرح صعوبات جديدة لم تكن معروفة من قبل.. فكثرة الأقمار الاصطناعية قد تؤدي إلى اصطدامات في ما بينها، ما يهدد بعضها بالاختفاء، خاصة تلك التي تلعب أدوارا مهمة وحيوية في مجالات مدنية محضة، العالم بأسره في حاجة إلى خدماتها. ولتنظيم المسارات الفضائية الخاصة بالأقمار الاصطناعية ولتجنب الاصطدامات تسعى “ناسا” الأمريكية إلى توقيع اتفاقيات في هذا الميدان مع الشركة الرائدة في هذا القطاع، والمتمثلة في « «spacex.
وجدير بالإشارة هنا إلى أن استعمال «stralink » في الحرب مكن أوكرانيا من الإفلات من التجهيزات الروسية الخاصة بالتشويش، كما أصبح جزءا رئيسيا من المنظومة الحربية الأوكرانية. وبالرغم من اعتبار البعض أن هذه الخدمات هي بالمجان إلا أن شركة «spacex »، أكدت أنها ليس بمقدورها توفير 20 مليون دولار شهريا لتمويل حاجيات “أوكرانيا”.
الانتصار الذي حققه “إلون مسك” في هذه الحرب جعله يحظى بثقة القوات الأمريكية، التي اعترفت بأنها تستعين بخدمات «starlink »، للاستجابة لحاجيات الوحدات العسكرية الأمريكية المتمركزة في أوروبا وإفريقيا؛ بل إن “نائب الأميرال” ب كوبر” « «B.cooper، قائد القوات الأمريكية بالشرق الأوسط، أكد أنه منتج نموذجي يساعد على مجابهة اللحظات الصعبة والمعقدة. إلا أن بعض التساؤلات تطرح من طرف صناع القرارات الإستراتيجية في واشنطن، والتي لا تقبل أن تظل شركة بمفردها. ونقصد هنا «spacex »، تتحكم في خريطة الاتصالات الحساسة للجيش الأمريكي، خاصة أن صاحبها قد تكون له في بعض الأحيان مواقف مغايرة للمصالح الأمريكية. وهذا الإشكال مطروح لكل الدول، لاسيما في حالة نشوب نزاعات العسكرية، مع وجود شركات تشتغل مع طرفي الصراع، ولها مصالح تجعلها مضطرة إلى اللجوء إلى نوع من التوازنات قد تكون مضرة لطرف ما في مقابل تقوية طرف آخر.