“الأكاديمية ماستر كلاس” : قصة نجاح مونية رزق الله في أوبرا برلين يجني ثمارها أيضا أبناء وبنات بلدها الأصلي

0

لم يكن عمرها يتجاوز سبع سنوات عندما شجعها والدها، العامل البسيط في المهجر والشغوف بالموسيقي الكلاسيكية، على الولوج الى هذا العالم، الذي لم يجد اليه سبيلا. إنها عازفة الكمان في أوبرا برلين، المغربية مونية رزق الله، التي سطرت قصة نجاح يجني ثمارها أيضا أبناء وبنات وطنها من خلال مشروعها “الاكاديمية ماستر كلاس” للموسيقي الكلاسيكية.

مشروع الاكاديمية بالنسبة لمونية رزق الله ، التي ارتقت الى مرتبة عازفة الصف الأول في الأوبرا، هو ثمرة رغبة جامحة في أن تتقاسم وتنقل بدورها ما تعلمته من أساتذتها الكبار الى الشباب المغربي الموهوب، لان الموسيقى الكلاسيكية بالنسبة اليها، على غرار العديد من التخصصات الأخرى، تعتمد أيضا على التوجيه والتأطير.

وتبرز مونية التي هي أيضا مدربة في الاكاديمية الاركسترالية في أوبرا برلين، في بوح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن “الامر أكثر من مجرد درس أكاديمي ، أو قراءة تقاسيم موسيقية ، إنه أكثر تعقيدا وعمقا، كل هذه المعرفة غير المكتوبة ضرورية للتفاعل مع الجمهور، شعرت بهذه الحاجة الملحة لمواصلة الرحلة ، لمواكبة المواهب الصاعدة، لأنقل لهم بدوري بعض الأسرار الفنية في المجال”.

وانطلاقا من هذا الهاجس الذي يحركه تشبثها بأصولها المغربية، جاء إحداث الأكاديمية، كمشروع ثقافي يروم النهوض بالموسيقى الكلاسيكية في المغرب، ونقل ثقافة الأوركسترا إلى المواهب المغربية الشابة وإعدادهم لمسار احترافي.

ويضم المشروع الذي ترعاه سفارة ألمانيا وبدعم من معهد غوته بالرباط، نخبة من الموسيقيين المحترفين من الفرق الموسيقية والأوركسترا الكلاسيكية الألمانية الكبيرة التي تحذوهم الرغبة نفسها في نقل وتقاسم معرفتهم.

وتنظم الاكاديمية دورتها الثانية هذه السنة من خامس الى 13 يوليوز الجاري بالمعهد الوطني للموسيقى والرقص بالرباط، وستختتم بحفل موسيقي في الهواء الطلق في ساحة المكتبة الوطنية في الرباط.

وتحظى هذه الدورة بدعم شركة “بوش” العملاقة الالمانية، وهنا لا تملك مونية رزق الله الا أن تعبر عن سعادتها قائلة “أمر لا يصدق ، الصناعة والموسيقى جسر بين المغرب وألمانيا، الامر لا يتعلق فقط بفن الموسيقى ولكن بتعزيز علاقات صداقة بين البلدين”.

وتسترجع مونية بداية رحلتها الموسيقية مع الشباب المغربي ، قائلة “قبل بضع سنوات، قمت بإحياء حفلات موسيقية في المغرب، وعلى هامشها، زرت المعاهد الموسيقية في العديد من المدن في المملكة وأثار انتباهي فضول شبان موسيقيين للتعرف على مسيرتي وكيفية جعل شغفهم، احترافا مهنيا، وعبروا لي عن رغبتهم في العمل والاطلاع على ما يحدث في أوروبا في عالم الموسيقي ، غير أن الامر كان مستحيلا بالنسبة لهم بسبب ضعف الإمكانات المادية، إنه الحافز الذي جعلني أفكر في مشروعي وفي طريقة تمويله لاني لا أعيش في المغرب، بلدي الاصلي ولا في فرنسا مسقط رأسي، ولكن أقيم في بلد الاستقبال ألمانيا”.

وظلت عازفة الكمان المغربية على اتصال مع بعض هؤلاء الشباب وبدأت تتبلور لديها فكرة وضع برنامج خاص لتدعيم المواهب وخلق حلقة وصل بين الدراسات الأكاديمية والولوج إلى فرق الأوركسترا المحترفة.

ويتمحور برنامج “أكاديمية ماستر كلاس المغرب”، حول تداريب فردية وجماعية مكثفة، ولكن ما يميز هذا المشروع الموسيقي بالدرجة الاولى حسب مونية رزق الله ، هو أنه أثمر أوركسترا الشباب المغربي والتي كانت الحلقة المفقودة في السلسلة على حد تعبيرها.

وترى مونية رزق الله، أن بيت القصيد من إنشاء هذه الأوركسترا هو إبراز المواهب المغربية الشابة وإعدادها للاندماج المهني والالتحاق بفرق الأوركسترا المحترفة، مشيرة الى انه يتم تنظيم حفل موسيقي مجاني في ختام الدورة التدريبية.

آمال وطموحات مونية لا حدود لها، تتجسد في نظرة عينيها التي تشع حماسا وذكاء، ومن نبرة صوتها التي تشي بالعزيمة والاصرار في فتح أبواب الموسيقى الكلاسيكية على مصراعيها أمام الشباب المغربي الموهوب وتذليل العقبات أمامه نحو التألق و الاحترافية ولم لا الوصول الى العالمية مثلها، وهي تستحضر تأثر والدها الراحل الذي اشتغل سائقا ميكانيكيا في فرنسا حيث رأت النور، والذي لم يلج أبدا ابواب المدرسة ، لكنه كان يعشق الموسيقى الكلاسيكية ، وحكى لها أنه عندما كان صغيرا كان يجلس قرب باب المعهد الموسيقي بمدينة الدار البيضاء للاستماع الى الموسيقى خاصة عزف الكمان الذي وجدت نفسها تجتذب اليه عن طواعية.

وتتطلع عازفة الكمان المغربية الى مشاركة أوركسترا الشباب المغربي إلى جانب فرق الأوركسترا الأخرى في العالم، في مهرجان موسيقى الشباب “يانغ يورو كلاسيك” المنظم في برلين، والذي يعد الواجهة الدولية لأفضل ما يمكن أن تحققه الدول في مجال التدريب في الموسيقي الكلاسيكية.

وتقول “سيكون من أكبر دواعي اعتزازي أن أبرز للعالم إمكانات الشباب المغربي ، وأن يقام حفل مع ماريك جوناوسكي، أحد كبار قادة الأوركسترات وأشهر الموسيقيين والذي كان قد أشرف على تدريبي ضمن الأوركسترا الفرنسية للشباب بباريس قبل الانضمام الى الاكاديمية”.

وتبدو عازفة الكمان المغربية واثقة من خطواتها وهي تستشرف مستقبل مشروعها بالرغم من حداثته، موضحة أنه “خلال الدورة السابقة والدورة الحالية، كان من الضروري أن نحدد طبيعة المشروع ونتعرف على حاجيات الموسيقيين الشباب المغاربة وتطلعاتهم وأحلامهم، اما الموسم الثالث ، فسيرتكز على الادماج المهني لهؤلاء الشباب، بهدف ضمان استدامة المشروع، وهي فترة مواكبة الموسيقيين نحو إدماج مهني حيث توجد في المغرب، اوركستراتان مذهلتان هما الاوركسترا السمفونية الملكية والأوركسترا الفيلارمونية بالمغرب اللتان يبحثان عن مواهب جديدة.

وترى أن الأمر يتعلق بمبادرة تعود بالنفع على الجميع، بالنسبة للشباب الذين يبحثون عن العمل والاركسترات المهنية التي تبحث عن موسيقيين محترفين.

وعلى عكس الاعتقاد السائد في المغرب أو غيره من البلدان، بأن الموسيقى الكلاسيكية نخبوية ، فإن لعازفة الكمان المغربية التي تنحدر من أسرة متواضعة، رأي مخالف، معتبرة أن الموسيقى هي تجربة إنسانية. وتحكي في هذا الصدد أنها ذهبت مرة الى المدرسة لاصطحاب ابنتها الى المنزل وكانت تحمل معها آلة الكمان، فخطر في بالها أن تعزف للاطفال قليلا من موسيقى موزار وباخ بعد ان استأذنت المدرسة، فوجدت نفسها أمام أروع جمهور على حد قولها، “بعد هذا الحفل العفوي، أراد التلاميذ أن يقدموا لي أغلى ما لديهم ، قطعة حلوى، موزة، تفاحة نصف مقضومة، كان الامر بالنسبة لي لا يصدق، تلاميذ في سن السابعة تفاعلوا مع الموسيقي وجعلتهم يرغبون في العطاء لانهم تلقوا شيئا لايعرفون ما هو، ولم يستطيعوا تحليله، لكنه مس كيانهم، لدرجة أنهم قدموا لي أغلى ما يملكونه”.

وتضيف “كان المشهد جد مؤثر بالنسبة لي وهنا توصلت الى أن الموسيقي ليست نخبوية ، هي شيء طبيعي بالنسبة للاطفال ، واعتقد أن الامر يعود الى عدم الاستماع للموسيقي في المنزل وفي المدرسة ، انها بمثابة اكسجين للتلاميذ يجب ادراجها في المدارس مثل أي مادة أخرى، أو على الاقل تعلم أسسها”.

وتذهب مونية الى حد اعتبار الموسيقى الكلاسيكية الاداة التروبية الاكثر فعالية في العالم، بل ترى أنها مدرسة في الحياة ، مبرزة “ما يتعلمه تلامذتي في التداريب يحتاجونه في معيشهم اليومي، ألقن تلامذتي، الصمت والانصات، ثم الفهم، ثم التحليل وبعد ذلك العزف، أي أن الامر يتعلق بعملية متدرجة من أجل القيام بفعل ما، وهو ما يحتاجه الاطفال”، مؤكدة أن الطفل الذي لا يتعلم الموسيقى الكلاسيكية لن يستمع اليها عندما يصير شابا.

وتضيف “الموسيقى تعلمنا أيضا العيش المشترك، في الاوركسترا، هناك 50 شابا ، قدموا من مختلف المدن المغربية ، لا يعرفون بعضهم البعض ، هناك كرسيان وكراس الن وت ة هو بالنسبة الينا ، تقسيم موسيقي ، يجب قراءته، وفهم القصة التي سنرويها (نفس الفهم)، وهذا في ظرف أسبوع واحد ، هناك منذ البداية عملية للاندماج، للتعرف على الاخر، لتقاسم نفس القصة الموسيقية، كما أن الشباب يستوعبون انه لا يمكن التحدث في نفس الوقت ، لكي نستمع لبعضنا البعض، ونتمكن من فهم بعضنا البعض”.

مشروع مونية رزق الله حديث في نشأته، لكنه تطلب سنوات من الاشتغال وهي ترنو الى أن تجعله مستداما ولذلك فهي بحاجة الى دعم من الجانب المغربي، حيث وجهت نداء الى المؤسسات المغربية المهتمة لدعم هذه الاكاديمية.

ولاتكتفي مونية بتقاسم ثمار نجاحها مع الشباب المغربي، بل إنها تسعى جاهدة الى توفير كل الظروف المناسبة لانطلاق هذه المواهب بعيدا في عالم الموسيقى الكلاسيكية، مشيرة الى أن أغلى أمنية تراودها الان هي التوفر على مسرح أو قاعة في المغرب لاحتضان التداريب، معتبرة أنه من المهم بالنسبة لهؤلاء الشباب التوفر على فضاء خاص بهم، منوهة في نفس الوقت بتعاونها مع المعهد الوطني للموسيقي والرقص بالرباط الذي احتضن الاكاديمية، معربة عن شكرها لمديره وفريقه.

ذلك هو الحلم الذي يراود مونية رزق الله التي أبت إلا أن تقود المواهب المغربية في مسار متميز في عالم الموسيقى الكلاسيكية، حلم لن يكون صعب المنال، طالما آمن الجميع بأن الموسيقى غذاء للروح والعقل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.