النحات الغاني ايل أناتسوي في حوار التجريب والمهارة لتوليد المعنى والجمال من قلب أحد متاحف الدوحة

0

زهور السايح: مهارة وحذق وبعد رؤية ورهافة حس، تحمل جميعها الزائر لمعرض الفنان الغاني العالمي ايل أناتسوي بالمتحف العربي للفن الحديث بقلب المدينة التعليمية بالدوحة، الى التذوق والاستمتاع بجدلية التجريب والمهارة وهي تبني أسطورة فنية فريدة في توليد المعنى والجمال من قلب مواد بسيطة ودارجة الاستعمال، وقد تكون عديمة الجدوى بعد أن استنفذت وظائفها الأصلية.

تجربة متميزة تحفز الزائر لهذا المعرض، الذي سيتواصل مع الجمهور الى غاية 31 يناير الجاري، على إعادة التأمل في كثير من البديهيات التي لديه عن مواد، غير محصورة العدد، يستعملها في حياته اليومية وقد لا يعيرها أكثر من قيمة وظيفتها المتعارف عليها والمحدودة زمنيا.

ولا ريب، أن بمقدور هذه التجربة الفنية أيضا أن توقظ قدرة كامنة لديه على توليد المعاني واكتشاف خباياها، وما قد يعضدها أو يقابلها في احتمالات لانهائية؛ قدرة غالبا ما لا يتفطن لها المتلقي، وقد تضيع منه بوصلة التحكم فيها واغتنام فوائدها.

عصارة تجربة غنية على مدار خمسين عاما تحمل عنوان “إل أناتسوي .. مستوى النصر”، في ما وصفه القيمون على المتحف ب”أكبر وأشمل معرض لأعمال” الفنان الغاني ايل أناتسوي، ذي الصيت العالمي الذي توجد أعماله ضمن مقتنيات أكبر متاحف أوروبا وأمريكا وفي قارته السمراء وبلده على الخصوص.

بهذا المعنى، تحمل الأعمال المعروضة رؤية ثرية ومتجددة مع كل نظرة يلقيها الزائر أو يعيد من خلالها استقصاء مكامنها من زوايا مختلفة. وتوقع في قناعته أن احتمالات بناء المعاني وتوليد الجمال من قلب البسيط والعادي، وربما المستهجن برؤية من وسائُدهم من مِخْمَلٍ، هي بدون منازع حلقات مبهرة، يتدفق فيها توالد غزير للمعاني، ويتسع فيها مجال تذوق الأبعاد الجمالية الخبيئة لمختلف القطع الفنية.

عند هذه العتبة، يدور بخلد الزائر-القارئ لما وراء الإنجاز الفني سؤال مشروع، قد يكون جزءا من رهان الفنان، وهو حول إذا ما كان بمقدور الخيال والمهارة أن تمنح إزميلا فاعلا في تغيير علاقة المواد ببعضها، وعلى درجة من النعومة والشاعرية لغزو سكينة الأشياء وإبراز جمالياتها، أو بالأحرى اكتشاف ما في ثناياها البارزة والخفية من معان وأبعاد جمالية ؟!!.

وهل يملك الفنان، عبر تدفق خياله ومهارته الفنية، بالفعل القدرة على حلحلة حالة الاعتياد والألفة لدى المتلقي لإنارة، بما يكفي، مساحات قد تغيب تماما عن زوايا رؤيته، وهو مستسلم لازدحام وسطوة المرئيات، وهي تَشُطُّ به بعيدا عن العمق الكامن في ما هو أقرب من أنفه وعلى مد بصره القريب !!؟.

أسئلة قد تجد إجابتها على نحو شاف، حين يقف الزائر بنوع من الذهول والإعجاب أمام إنجاز صاغه ايل أناتسوي على شكل متاهة تحت مسمى ” لوغاريتم لوغوليغي” (كلمة لوغوليغي محاكاة صوتية مأخوذة من إحدى اللهجات المستعملة في غانا وتعني خطا يشبه الأفعى)؛ ليدرك عندها الكيفية التي يمكن بها لمتاهة، مشكلة من ستائر شفافة ومتشابكة، قوامها أغطية قوارير بلاستيكية ملتفة بأسلاك دقيقة ومعلقة على نحو شاهق، أن توحي بالضخامة والامتناع، وأن تخلق، ليس فقط المعنى الذي سعى إليه الفنان، وإنما أن تولد لدى المتلقي المرهف والمتيقظ معاني أخرى تتوالد من بعضها بتدفق لا متناه.

وكيف يمكن لها ايضا، في حالة الانجذاب الكامل للمتلقي الى جبروتها الآسر، أن تُقنعه بأنها متاهة انشطار الدلالة وضياع المعنى الحقيقي في عالم تتكاثف أسواره وينفلت قياده ويغيب عن الأفهام، وإن شَفَّت عما بداخلها من مسالك ملتوية.

وقد لا تقف قراءة معنى المتاهة عند هذا الحد، فقد تخلق للمتلقي كذلك إحساسا مريرا بضياع وجودي، إزاء انغلاقها، رغم ما يبدو من مسالكها خلف الفراغات المتاحة من ستائرها المعلقة بثقلها وجثومها الكاسر.

ولربما قد تذهب به هذه القراءة إلى الطرف النقيض، لتحثه على إعلان تمرده وعصيانه إزاء قضايا كثيرة، كان خَبَرَها الفنان الغيني ايل أناتسوي، وأراد أن ينقلها في مجازات واستعارات، وأن يفرغ قناعاته في أعمال تستدعي مشاطرة متلقيه؛ من قبيل معاناة أسلافه المهاجرين من شعب “الإوي” في القرن الخامس عشر من الاعتقال على يد الملك أغوكولي في مدينة نوتسي و”نجاحهم بدهاء”، بحسب الحكاية المصاحبة لمنشور العرض، في تدمير أسوار المدينة ونيل حريتهم. وما يختزله ذلك عن فهم الفنان لمفاهيم وأبعاد الهجرة والحدود والمواطنة وقوة الخيال في مواجهة شتى الصعوبات.

وفي تدفق المعاني، قد يحدس المتلقي أيضا في هذه المتاهة إحالة على سطوة شروط التخلف على جوانب كثيرة من الحياة في إفريقيا وغيرها من بلدان العالم الثالث، وقد تبدو له تفريغا فنيا لتقريب جانب من جبروت الاستعمار الذي رزحت إفريقيا زمنا تحت ثقله، وما يزال لتداعياته جروحا لم تندمل بعد.

وقد يبرز من قلب ذلك المعنى ما حمله هذا الاستعمار أيضا من شرارة للدفع الى خوض معارك الانفتاح على حداثة عالم رحب يتسع للجميع، ومفروض فيه، اتساقا مع موضوع الحريات والحقوق الإنسانية، أن تغيب عنه عنصرية اللون والجنس والانتماء والعقيدة.

وما بين مناوشات المنحوتة واللوحة والجداريات وما لا حصر له من الإنجازات، المعلق منها والمرصوف على الأرضيات، بألوان هادئة حينا، ودافقة بالطاقة حينا آخر، يجد المتلقي نفسه منقادا في عالم غني بالدلالات والألوان والأشكال.

أشكال وتصاميم يقودها ميل عاشق لدى ايل أناتسوي إلى ما يتيحه الخشب من إمكانيات وجماليات ورسائل دافئة. وتارة إلى ما توقعه المعادن بأنواعها في نفسه من حلاوة الانتصار على تطويع سمكها وصلابتها. وتارة أخرى الى ما يتولد عن متعة انخراطه في لعبة النسج وتركيب المواد المتنافرة مع بعضها، بحثا عن انسجامه كذات منجِزة مع موضوعها.

تمرين بليغ من المجازات تنقل المتلقي عبر قاعات عرض منفصلة لتقذف به في قلب حالات من تجريب فني يكشف عن صبر وأناة ومهارة الفنان الغاني، الحاصل، أواخر ستينيات القرن الماضي، على درجة بكالوريوس في فن النحت ودبلوم دراسات عليا في تعليم الفن، والذي احتك بالثقافة والفنون الإفريقية والأوروبية. واطلع على أنماط نحت مختلفة بدءا من الواقعية الأكاديمية إلى التجريدية الحديثة. ودخل في صراع حسم مع تجارب ما يزال يخوضها الى الآن بقوة وتفرغ فني أكبر، منذ دخوله سنة 2011 سن التقاعد من التدريس الجامعي لفن النحت ومبادئ التصميم.

تجارب تلغي الحدود بين النحت والرسم والتركيب والتجميع، وتتنقل بسهولة ويسر بين المنجز الضخم الذي يأخذ فضاء أوسع والقطعة المنحوتة أو اللوحة، وأيضا المنمنمات الغارقة في الثنايا الدافئة لمادة الخشب، أو تلك المستلقية في عمق البرودة البادية للمعادن.

ويبقى ايل أناتسوي الفنان الإفريقي المبدع راهبا في محراب طقوس تجريبه الفني المتواصل. يسوقه عشق وافتتان جارفين بالمواد التي ينسج بها ومن خلالها أعماله. متيما ببناء صروح فن لا يقبع داخل حدود مسورة، وإنما يمتلك أجنحته الخاصة، لا تحكمه في ذلك غير لحظات ونشوة الإنجاز، ليعود بعدها من غزواته لذاتِه المبدعة ولموادِ إنجازه مظفرا بالتقاط شلال متدفق من المعاني والجمال.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.