من خلال قراءة في ديموقراطية الجوار الأوروبي (نموذج انتخاب رئيس الحكومة الإسبانية الاشتراكي ).
إن المتتبع لمسار الديموقراطية في العديد من الدول التي تعرف تقدما كبيرا في المجال الديموقراطي ، أو التي تميزت بخصوصية معينة في ممارستها للديموقراطية التدبيرية للمجتمع ، يدرك أن الممارسة الديموقراطية تعرف أشكالا مختلفة ومتنوعة ، لكنها لا تخرج أبدًا عن روح الديموقراطية.
ويبدو أن النموذج الإسباني الحالي يصلح أن يؤخذ بعين الإعتبار في ممارسة الديموقراطية التي تمتد إلى جميع المكونات السياسية رغم إختلافاتها البينة والمتناقضة أحيانًا ، الكل يعلم التجاذبات السياسية في إسبانيا بين اليمين الذي يمثل الحزب الشعبي ، وبين الحزب الاشتراكي وباقي التيارات اليسارية ، إن الممارسة السياسية تتطلب الخبرة الميدانية ، وهي تكاد أن تكون حرفة لمن يتقنها ،
نتذكر جميعا عندما تم إجراء الانتخابات البلدية والجهوية في اسبانيا وفاز فيها الحزب الشعبي اليمني ، حيث تصدر الانتخابات العامة المبكرة التي جرت في 23 يوليوز 2023, بإسبانيا عقب حصوله على 32.91%, من الأصوات و137 مقعدا في مجلس النواب، يليه الحزب العمالي الاشتراكي الذي حصل على 31.77%, من الأصوات و121 مقعدا، حيث اتضح للجميع أن الحزب الشعبي سيكتسح الانتخابات البرلمانية القادمة.
لكن ذكاء رئيس الحزب الاشتراكي السيد بيدرو سانشيز، قام في اليوم الموالي بالدعوة إلى إجراء انتخابات سابقة لأوانها ، ولم يترك مساحة زمنية للحزب الشعبي بأن يفرح بإنتصاراته في الانتخابات البلدية والجهوية ويستعد للبرلمان ، بل أدخله في حسابات غير متوقعة أربكته في الحصول على الأغلبية المطلة في الانتخابات التشريعية ، بينما بدأ الحزب الاشتراكي في ترتيب أوراقه للحصول على الأغلبية البرلمانية المطلقة ، وبدأ كذلك من خلال مفاوضات جدا معقدة لحصوله على الاغلبية بعد فشل الحزب الشعبي على حصوله على الاغلبية المطلقة، التي تسمح قانونيا ودستوريا على تنصيبه رئيسه كرئيس للوزراء في الحكومة الاسبانية .
وكان رئيس الحزب الاشتراكي الاسباني ذكيا في تجميع تيارات سياسية معارضة مع العلم أن المعارضة اليسارية في إسبانيا تختلف في بنيتها وفي مواقفها ومرجعيتها من حزب لآخر ، والمتمثلة في العمالي الإشتراكي (121)، ونواب حركة سومار (31)، واليسار الجمهوري الكاتالوني (7)، وحزب معا من أجل كاتالونيا (7)، وبيلدو (6)، وحزب الباسك القومي (5)، والكتلة الوطنية الغاليسية (1) والائتلاف الكناري (1) ، وفعلا فشل الحزب الشعبي بزعامة السيد ألبرتو نونيز فيخو، في الحصول على الأغلبية المطلقة من البرلمان الاسباني ، رغم تصدره لنتائج الانتخابات البرلمانية.
وللإشارة فاز السيد بيدرو سانشيز برئاسة الوزراء الحكومة الاسبانية بتصويت على الثقة في البرلمان (الغرفة السفلى للبرلمان)، يوم الخميس 16 نونبر الجاري 2023، لولاية جديدة مدتها أربع سنوات، وقد حصل رئيس الوزراء الاشتراكي على 179 نائبًا، أي الأغلبية المطلقة ، أي بزيادة ثلاث أصوات إضافية عن الأغلبية المطلقة التي يحتاج إليها والمحددة في 176 صوتا فقط، بينما عارض مسعاه 171 نائبا يمثلون المعارضة ، من خلال قراءة هذه المعطيات التي مرت بها العملية الانتخابية والسياسية في الحارة الإسبانية يمكن أن نستنتج الملاحظات الآتية :
أنه ليس من الضروري بأن أي حزب تصدر الإنتخابات البرلمانية يمكنه تشكيل الحكومة وحكم البلاد
أنه بعد العمليات الانتخابية ، يبدأ الرجوع إلى بنود الدستور ، وما يقره مسطريا في عملية تشكيل الحكومة
أنه ربحا للوقت واحتراما للتراتبية يمكن للحزب الحاصل على الرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية أن يشكل الحكومة في حالة فشل الحزب الحاصل على الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية ، وذلك من صميم العمل الديموقراطي
أن تشكيل الحكومة دستوريا لاعلاقة له تماما بعدد المقاعد التي حصلت عليها باقي الأحزاب ، بدليل أن تشكيل الحكومة الاسبانية الجديدة فيها أحزاب لها مقعد واحد ، وأحزاب 5 ، وأكبر حزب له 7 ، مما يعني أن الإختيار الدستوري أقوى من الإختيار الإنتخابي في عملية تشكيل الحكومات ، لأن الأولى يمثل إختيار المواطنين ، والثاني يمثل إختيار الدولة
أن الحكومة الاسبانية الحالية حققت المصالحة الوطنية والحفاظ على الوحدة الترابية الإسبانية ، بعدما كسب الأصوات السبعة لحزب ( معًا من أجل كاتالونيا ) مقابل منح عفو للانفصاليين الكاتالونيين وإنهاء موضوع الإنفصال ، وهذا مكسب سياسي استراتجي كبير حققته الحكومة الحالية يفوق كل الأهداف الرئيسية
أن الحكومة الحالية ستضمن السلم الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي في السنوات المقبلة بحكم مكوناتها الاجتماعية والاقتصادية
أن التساوي في الحق الدستوري ليس بالضرورة ماتعكسه نتائج الانتخابات العامة
أن الحكومات المقلصة تبقى منعزلة عن باقي المكونات السياسية والاجتماعية ، وهذا يخل بالتوازنات السياسية ، في ظل ضعف البنية الإجتماعية
أن القوة الانتخابية ترشح الأحزاب السياسية لقيادة الحكومات ، تبقى القوة الدستورية هي التي تراقب مدى نجاح برامج الحكومات وأثارها على المواطنين ، كما أن القانون يحدد مدة الحكومات ، لكن الدستور يحدد مدى صلاحية استمرارها .
أردنا لإسهام بقراءة هذا النموذج الديموقراطي الإسباني المتوسطي. وقد رأينا كيف أن القوة الإنتخابية مؤقتة في حين أن أحكام الدستور ثابثة ، وبالتالي لا أحد يستقوي بالمؤقت ، وإنما الجميع يستقوي بالدستور الذي هو يحكم جميع المؤسسات والمستويات.
ولأننا لانعيش لوحدنا منعزلين ، وإنما قد نستنتج من بعض النماذج الديموقراطية الإيجابية ما يمكننا من التعامل بإيجابية مع المشهد السياسي الوطني .