الحرب الروسية الأوكرانية عرفت، حسب المتتبعين لمجال الصناعات الحربية في العالم، بروز جيل جديد من الأسلحة بمنظومة تكنولوجية حديثة قادرة على تحليل كل المعطيات الميدانية بسرعة فائقة ودقة عالية، يضمن لها التفوق في إصابة أهدافها المحددة. من هذا المنطلق، فجل المؤسسات المعنية بهذا المجال، سواء في أمريكا أو الصين أو روسيا أو أوروبا، تتابع عن كثب هذه المتغيرات في صمت وسرية، بعيدا عن النقاش الدائر على المستوى الإعلام الموجه إلى عامة الناس، لتأكيد ما ذكرنا.
وبالعودة إلى الحرب الباردة، كانت بعض التقارير الأمريكية تتخوف من ترسانة الأسلحة السوفياتية التي استطاعت آنذاك تعبئة أكثر من 30.000 ألف دبابة على مستوى الجبهة الأوروبية؛ وهو ما دفع بالقيادات العسكرية في تلك الفترة إلى طرح سؤال استراتيجي: ما العمل في مواجهة هذا التفوق الذي كان يشكل نوعا من الخلل في موازين القوى بين الطرفين؟
الإعلام الغربي آنذاك ومعه جزء من الرأي العام إبان صراع بين المعسكرين الشرقي والغربي كانوا متحمسين للضغط بورقة الأسلحة النووية التكتيكية، باعتبارها وسيلة الردع الوحيدة في هذه الحالة. المختبرات الأمريكية المتخصصة في البحث المرتبط بالصناعات العسكرية كان لها رأي آخر، رد فعلها هو إيجاد منعرج تكنولوجي يستطيع تقديم أجوبة ميدانية تحقق التوازن المفقود. من هنا، بدأ التفكير في ترسانة من الأسلحة، أُنتجت لهذا الغرض، نذكر منها الطائرة التي أطلق عليها “مدمرة الدبابات” والتي تسمى « A-10 THUNDERBOLT » القادرة على إصابة المدرعات، ثم الدبابة “أبرهامس”، الوحيدة التي بإمكانها إطلاق قذائفها أثناء القيادة بدون توقف، ثم ظهرت فيما بعد طائرة هليكوبتر “أباشي”، وجيل آخر من الأسلحة التي استعملت في الحروب الكلاسيكية.
هذه الخلفيات التاريخية حاضرة بقوة عند صناع القرار الأمريكيين، بدليل أن كييف تلقت دعما استثنائيا بكل المقاييس؛ فخلال تسعة أشهر تجاوزت الأسلحة التي توصلت بها أوكرانيا مجموع ما يقتنيه الجيش الفرنسي من العتاد لمدة سنة، جلها ينتمي إلى الجيل الخامس من الأسلحة؛ وهو ما أثر على الفعالية التكنولوجية العسكرية الروسية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالمعلومات الدقيقة والتي وفرتها المنظومة الأمريكية المسماة « ISR intelligence surveillance Reconnaissance » . هذه الأخيرة، حسب جزء من القادة العسكريين الميدانين الأوروبيين، تتوفر على بعض التجهيزات الدقيقة غير المعروفة في القارة العجوز. حجتنا فيما ذكرنا هو أنه قبل الهجوم الروسي، وحين أخطأت مجموعة من التقارير العسكرية الأوروبية ومن بينها الفرنسية، التي لم تكن تتوقع اندلاع الحرب، والتي كان من نتائجها الأولى استقالة الجنرال “إيرك فيدود” « ERIC Vidaud » ، مدير الاستخبارات العسكرية الفرنسية، كانت واشنطن على علم مسبق بالتحضيرات الروسية بفضل توصلها بمعلومات مستفيضة عن القوة الروسية المترابطة في الحدود مع أوكرانيا، انطلاقا من متابعتها لمجريات المناورات التي قامت بها موسكو في نونبر 2021، بحيث عاينت تحركات الجيش الروسي بشكل دقيق بواسطة طائرات كانت تحلق في أجواء عالية مجهزة بنظام « Système de reconnaissance aérienne, d’exploitation du ciblage et de renseignement multimissions » القادر على التقاط صور تضم كل التفاصيل الخاصة بالأسلحة والبشر بدقة عالية، بواسطة طائرة الجيل الجديد « CL-600 Artemis » ، بالإضافة إلى هذه الخطوة الاستخباراتية الجوية ، تم وضع وبتنسيق مع السلطات الأوكرانية وبشكل استباقي، أكثر من 20.000 ألف وحدة صغيرة غير ظاهرة للعيان، مكلفة بتقوية صبيب الأنترنيت، متصلة مباشرة بأحد الأقمار الاصطناعية المؤطرة من بعيد بواسطة شركة « Spacex » الأمريكية، الغرض من ذلك هو توجيه طائرات الدرون الأوكرانية، مع تقديم على المستوى البري كل المعلومات الدقيقة إلى المدفعية.
يجب الإشارة هنا إلى أن جزءا كبيرا من هذه التقنيات تجرب لأول مرة في الميدان من خلال حرب حقيقية وليست مناورات بعيدة نسبيا على الواقع. خلفيات الاهتمام الأمريكي هو التأكد من استمرار التفوق، خاصة على المنافس الرئيسي. ونقصد هنا الصين، هذه الأخيرة حققت قفزة استثنائية في مجال الصناعات العسكرية، ساعدتها على الاستغناء شبه النهائي على الأسلحة الروسية، مما يؤرق قادة البنتاغون.
إلى جانب البحث عن الفعالية التكنولوجية، وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في مأزق مؤقت نظرا لفتور علاقتها مع الحليف الأطلسي القوي. ونقصد هنا تركيا، التي تشكل بالنسبة لواشنطن سندا لوجستيكيا في المنطقة. وتحسبا لكل موقف لأنقرة من الحرب الدائرة في أوكرانيا، مخالف لرؤية واشنطن، وجد البنتاغون في اليونان بديلا مؤقتا. هكذا أصبحت القاعدة الأمريكية ” ألكسندرو بولي” « ALEXANDROUPOLI »، الممر اللوجيسكي الرئيسي الذي عرف عبور 3000 جندي أمريكي بأسلحتهم الثقيلة متجهين نحو بلغاريا ورومانيا. قرار استعمال القواعد الأمريكية الموجودة باليونان ليس وليد اليوم؛ فمنذ سنة 2017، والبنتاغون يبحث عن بدائل في المنطقة بعد تفاقم الخلاف مع تركيا، بدليل أن الجنرال جامس ماتيس، كاتب الدولة في الدفاع الأمريكي إبان مرحلة الرئيس ترامب، اتخذ مبادرة تجديد اتفاقية الدفاع التي تجمع اليونان بواشنطن، باعتبار هذا البلد نقطة ارتكاز للحضور الأمريكي في أوروبا والبلقان. توسيع ميناء القاعدة المذكورة سابقا ثم تسريعه، حتى يتسنى للبواخر العسكرية الحربية الرسو بسهولة، جزء من هذه البواخر كانت موجودة بإسبانيا. واشنطن لم تقف عند هذا الحد؛ ذلك أن البنتاعون قام بتطوير قاعدة “صوندا” « SONDA »، لاستقبال طائرات الدرون الخاصة بالمعارك الحربية أو بالمراقبة، مما سمح لواشنطن بمواكبة كل التحركات البحرية الروسية والتركية في بحر ايجي وشرق البحر الأبيض المتوسط، زد على هذا القدرة على توفير البنيات التحتية للطائرات الأمريكية « kc35 » ، المكلفة بتزويد الأواكس بالوقود، ثم القاعدة العسكرية الجوية اليونانية بـ” لاريسا” « LARISSA » ، القادرة على استقبال الدرون « MQ-9 ». لم يقتصر الأمر عند هذا الحد فقد تم استعمال القاعدة “فولوس” « VOLOS »، التي تتوفر على بنيات لوجيستيكية تسمح لها بنزول وإقلاع طائرات “أباشي” و”شينوك”، تستعملهما القوات الأمريكية في الطوارئ الحربية المباغتة، بالإضافة إلى قاعدة « AKTION » ، المتواجدة بجزيرة ” ليفاكس” « LEFKAS » ، التي تم تحديثها هي الأخرى من أجل احتضان طائرات الأواكس، وأخيرا قاعدة “أراكوس” « «ARAXOS، لها قدرة على تخزين القنابل النووية، انطلقت بها الأشغال بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية لاستقبال طائرات ف 35، التي طلبت اليونان اقتناء 20 منها.
روسيا لم تبق مكتوفة الأيدي، الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية يحظى بأولوية مركزية في كل الخيارات الاستراتيجية للكرملين. هكذا اشتغلت موسكو على منظومة متعددة الوظائف، قصد ضرب الأقمار الاصطناعية الأمريكية بكافة أنواعها، مستحضرة قوة واشنطن في هذا المجال. ومعلوم أنه إبان الحرب الباردة الاتحاد السوفياتي سابقا كان الدولة الوحيدة التي تتوفر على برنامج موجه ضد الأقمار الاصطناعية، المعروف ب « ASAT co-orbital » . هذا التوجه استمر حتى بعد تفكيك الدولة السوفياتية وظهور فيدرالية روسيا، مشاريع شبيهة ببرنامج « ASAT » ، بدأ الاهتمام بها في أوساط التسعينيات، بواسطة عقود وقعتها وزارة الدفاع الروسية مع شركة « ALMAZ ANTEI » ، يتعلق الأمر حسب الخبراء بصاروخ يتكون من طبقتين يطلق عليه اسم « «14A042 ، محمول على ناقلة مخصصة لإطلاق الصواريخ، الشركة المذكورة سابقا اشتغلت مع مكتب الدراسات الهندسية الدقيقة JSCNU DELMAN » «، موسكو برمجت كذلك امتلاك بعض الأقمار الاصطناعية، ثم اختبارها سنة 2017و2019، المشروع كان يعرف باسم « «NIVELIR من طرف « TSNIIKHM »، رسميا يطلق عليه « « cosmos 2541 و« « cosmos 2543. هذا الأخير أزعج البنتاغون في بداية سنة 2020، عندما كان يقوم بدوران قريب من الأقمار الاصطناعية الأمريكية المتخصصة في التعرف البصري «Reconnaissance Optique » ، مثل صاروخ « USA-245 » ، هذه الخطوات وأخرى، اعتبرت بمثابة جواب روسي على الولايات المتحدة الأمريكية بعد انسحابها سنة 2002 من اتفاقية الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية « Traité Sur Les Missiles Antibalistiques » ، كذلك موسكو أنتجت ابتداء من سنة 2003 أسلحة دقيقة موجهة إلى منع الأقمار الاصطناعية للولايات المتحدة الأمريكية أو الحلف الأطلسي من التوصل بالمعلومات الميدانية، مستعملة لذلك بعض تجهيزات المراقبة المتمركزة بالقوقاز الشمالية والتابعة للمركب الفضائي العسكري الروسي الذي يطلق عليه “كرونا” « KRONA » ، الموجود بمنطقة ” اسطوفزفيا” « . «STOROZHEVAYA
وجدير بالذكر أن روسيا متقدمة في الحرب الإلكترونية، استطاعت تطوير منظومة متنقلة، أطلق عليها « «Bylina-M، هي جزء من مشروع كبير هدفه الاستعداد للحرب الإلكترونية. هذا البرنامج تكلف به المعهد المركزي الخاص بالبحث العلمي في الاقتصاد والإعلاميات وأنساق المراقبة، الغرض هو الوصول إلى ضرب الأقمار الاصطناعية الأمريكية الخاصة بالاتصالات في حالة مواجهة عسكرية شاملة مع الحلف الأطلسي، بموازاة ذلك، شركة VNII gradient » « المملوكة ل « Holding Technologie Radio Electroniques CKRET» قامت بإنتاج سلاح خاص لشل فعالية الرادارات أطلق عليه اسم Divnomorye » « ، أصبح جاهزا منذ ماي عام 2018.
هذا الكم القليل من المعلومات المتوفرة حول الجاهزية المتطورة لبعض الأسلحة الروسية يؤكد أن موسكو لن تقتصر على الحرب الكلاسيكية، مستحضرة تفوقها في مجالات أخرى، ستكون حاسمة في الحروب المستقبلية القادرة على الانتقال من المواجهة الميدانية كما هو الحال اليوم في الحرب الروسية الأوكرانية إلى التفكير في شن هجومات متعددة، الغرض منها الوصول إلى تعطيل أو زعزعة قطاعات حساسة، بواسطة تكنولوجيا لها القدرة على شل عمليات النقل الجوي أو البحري أو البري، أو اختراق الأنظمة المعلوماتية الضرورية في السير اليومي للمستشفيات، أو إدخال فيروسات في برامج التحكم في القطاعات الاستراتيجية؛ مما سيطرح حسب المتتبعين لهذا المجال تحديا جديدا على قيادات جيوش الدول الغربية.
انطلاقا من هذا المنظور وعندما نقوم باستقراء المسار الروسي في بعض المجالات الخاصة بالفضاء أو التطور الإلكتروني المرتبط بالمجالات العسكرية، يمكن أن نقر بأن بوتين قد يستعد لمواجهة طويلة مع الغرب، ربما خارج الميادين العسكرية الكلاسيكية، الهدف المتوخى هو خلق هلع في أوساط المدنيين. يكفي هنا الاستشهاد بما وقع مؤخرا لأحد المستشفيات الفرنسية، التي تعرضت لعملية اختراق لنظامها المعلوماتي، كاد أن يؤدي إلى كوارث من الصعب تحملها؛ وهو ما اعتبره الخبراء في مجال المعلوميات مجرد عينة صغيرة لحروب الغد، مع وجود فارق مهم، يتمثل في كون الحالة التي أشرنا إليها قد تدخل ضمن الجريمة المنظمة، بخلاف الحروب التي توظف التكنولوجيا الدقيقة المخطط لها من طرف قيادات عسكرية تنتمي إلى دول أو تحالفات تتوفر على إمكانيات ضخمة ومتطورة.