من وحي المسيرة ملك حكيم وشباب متحمس الوطنية لا تتجزأ ولا تقبل القسمة على التين، فإما أن تكون وطنيا أو لا تكون كذلك. كثيرا ما عن لي القول إن جميع المسيرات التي قام بها أبناء الصحراء المغربية، في سبيل تحرير أرض الوطن، كانت تلقائية باستثناء المسيرة الخضراء. تلك التي دعا إليها جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، لن نغوص في التاريخ القديم، وسيكون الاستهلال من البدايات الأولى لتوغل الاستعمارين الفرنسي والاسباني في اراضينا المغربية, هب الصحراويون المغاربة للدفاع عن الأرض، يحدوهم في ذلك الاخلاص لشعار آمنوا به، وأخلصوا له وماتوا من اجله، قبل أن يكون شعارا رسميا للمملكة. منذ تلك البدايات لا ينام صغارهم ويصحون إلا على تلك الأيادي الممتدة عاليا الى عنان السماء طالبين أن يحفظ الله الأوطان وينصر السلطان. أي الاخلاص لله في التوجه اليه والدعاء للوطن وللسلطان. حارب القوم عن بكرة أبيهم الاستعمار الاسباني في الجنوب والفرنسي في الشمال، ضحوا بأنفسهم، وابلهم وأما عيزهم وخيامهم من أجل شعارهم ذلك، اختار الرجال منهم ضنك العيش والتخندق في المغارات والكهوف، من أجل التصدي لاستعمار واجهوه في الصحاري والجبال، اتجهوا شمالا، خاضوا معه معارك طاحنة في جبال الصحراء وسوس. وصلت الى سيدي بوعثمان. وتجاوزت إلى تخوم تادلة والشاوية ومنهم من شارك في جيوش عبد الكريم الخطابي، وساهم في معارك خاضتها قبائل الأطلس. وايت عطا وايت خباش، ضد الاستعمار الفرنسي. وكانوا قبل ذلك اتوا على ظهور جمالهم ومنهم من أتى راجلا، قصد استقبال السلطان الحسن الأول في رحلته للجنوب المغربي. وما انخراطهم في صفوف جيش التحرير المغربي إلا أكبر برهان على ذلك، أعطوا إبلهم ومواشيهم وخيامهم وقريهم له، إعانة منهم وسخاء في سبيل الشعار. تركوا ما كانوا عليه من عيش نعيم وكريم، استجابة لنداء الواجب. كانوا من الأوائل الذين جعلوا من الرباط قبلة لهم بعد عودة سلطان البلاد من المنفى. وكانوا قبل ذلك يأتون إلى فاس ومراكش و الرباط، من أجل لقاء السلاطين العلويين. وتجديد البيعة والولاء لهم وطلب الاعالة للتصدي للاستعمار وأذنابه، وما التحاقهم من الصحراء المغربية على ظهور جمالهم وخيولهم، ببلدة محاميد الغزلان قصد حضور الزيارة التاريخية لجلالة المغفور له محمد الخامس، بتاريخ 25 فبراير 1958 إلا أكبر دليل على ذلك. كل ذلك وغيره كثير تم دون تلقي أدنى إشارة من المركز والعاصمة والجهات الرسمية. إنه الإخلاص للشعار، والتفاني في حب الوطن والتعلق بالمقدسات، وبالجالس على عرش المملكة، وعلى هذا النهج القويم والطريق المستقيم صار الأبناء
أتذكر جيدا والمناسبة شرط، وهي احتفال المملكة بعيد المسيرة الخضراء، ذلك اليوم من أيام شهر يوليوز، القائظ، بمدينة كلميم وأنا حينئذ مسؤول على رأس محكمتها، في ريعان شبابي- اواسط العقد الثالث- ذلك اللقاء الذي أصبح تاريخيا بكل المعاني، والذي جمعني بمنزلي بشابين من أبناء صحرائنا المغربية، ما زالا على قيد الحياة وهما: أبو زيد علي سالم من قبيله ايت موسى وعلي، و سيدي احمد بوليد من قبيلة ازوافيط، ونحن نتذاكر في الوضعية التي عليها صحراؤنا العزيزة، وما تعانيه ساكنتها على يد الاستعمار الاسباني، علت لنا فكرة تأسيس منظمة سياسية تحت اسم جبهة التحرير والوحدة. عقدنا اجتماعات متتالية على امتداد أيام عدة بيننا أحيانا، وبيننا وبين مجموعة من شباب المدينة أحايين أخرى. تم الاتفاق على الفكرة، وحتى يبقى عملنا في غاية السرية، حررنا نحن الثلاثة دون الآخرين رسالة، بعثنا بها مباشرة الى ديوان جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في الموضوع. وكانت المفاجأة كبيرة حين استدعيت من طرف عامل اقليم الطنطان السيد صالح زمراك، والرسالة لم يمض عليها أكثر من اسبوعين. لم يكن الاستدعاء على عجل حينذاك، وفي تلك الظروف من طرف العامل صالح زمراك بالخبر السار. أخبرت زوجتي بذلك، وهيأت نفسي للأسوأ. قطعت مسافة 130 كلم بين الهواجس والصور المظلمة، والمستقبل الأسود الذي ينتظرني، وما زاد من وساوسي حد الخوف والارتياع والجزع، هو ذلك المنظر الذي وجدت عليه الرجل، متجهم الوجه مقطب الحاجيين لا يكاد يرفع وجهه عن ورقة يقرأها أو يتظاهر بذلك، ولم يعر أدنى اهتمام لدخولي عليه، ولا للمنصب الذي أمثله، علما بأن الأطر الصحراوية المغربية في تلك الفترة تعد على رؤوس الأصابع. بادرني بالقول، هل بعثت رسالة إلى جلالة الملك؟ نعم، قلت، وأنا في منتهى الوجل. هل لي أن أعرف مضمونها؟ أجبت: لا يمكن لي أن أكشف عن رسالة وجهتها الى جلالة الملك. تنفست الصعداء واستبشرت خيرا وأنا أستمع اليه يقول: أنهي إليك أن صاحب الجلالة، أصدر أوامرة المطاعة، بالاستجابة إلى طلبكم. هيئوا لوائح الشباب الذين ترقيون في ذهابهم معكم الى غابة معمورة قرب الرباط، على أن يكون ذلك في أقل من عشرة أيام
وعلى امتداد أيام عدة تخللتها نقاشات حامية ومواقف متضاربة أحيانا حد التطرف، لكنها كلها في صالح مغربية الصحراء وما يجب أن نقوم به كشباب لنا غيرة وحيوية واندفاع، لصالح انعتاق صحرائنا من ربقة الاستعمار، والتحاقها وأهلها بأرض الوطن. تم الاجماع على تأسيس منظمة سياسية، تحت اسم جبهة التحرير والوحدة. – عن قصد. وضع القانون الأساسي لهذه المنظمة- لدي نسخه منه باعتباري رئيس اللجنة التي وضعته وسهرت على مناقشته والمصادقة عليه- وبالاطلاع عليه سيلاحظ أن أهدافه تجاوزت تحرير الصحراء المغربية لتتجه نحو تحرير بقية اجزاء الوطن المغتصبة، واستكمال الوحدة الترابية (الفصلان: الثالث والرابع). كما يلاحظ -وذلك عن قصد أيضا- أن شأن الصحراء عند هؤلاء الشباب، هو شأن وطني لا يختص به سكان جنوب المملكة عن شمالها. ويحق لجميع المواطنين المغاربة رجالا ونساء البالغين سن الرشد وبدون ميز، الانخراط في المنظمة (الفصل الخامس) كشاهد على هذا الحدث التاريخي وكمسؤول عنه منذ انطلاقته الى غاية تأسيسه، وكرئيس للجنة التي صاغت ذلك القانون وسهرت على مناقشته من طرف الحاضرين والمصادقة عليه، أسجل للتاريخ أن بداية لقائنا الأول وما تلاه من لقاءات واجتماعات، في مدينة كلميم وما نجم عنه من تهيئ للوائح الشباب الذين سيلتحقون بغابه معمورة، ومخرجات ذلك اللقاء ونتائجه، لم تكن للسلطة- يستوي في ذلك الموجود منها بالجهة أو المركز – ولا لأي جهة أمنية مهما علا شأنها، التدخل في أشغالنا أو توجيهنا إلى حيث نحن ذاهبون. هذا إذا استثنينا العمل اللوجستيكي أو الإشراف على الإيواء وما يتبع ذلك، لم تكن ننتظر تعليمات أو توجيهات أو رسائل يحملها هذا المسؤول أو ذاك، من أجل القيام بالواجب، إنه حب الوطن، والتعلق بذلك الشعار الذي ضحى من أجله الآباء والأجداد لم يثننا عنه لا شبابنا الغض الطري، ولا الخوف من تحدي الصعاب والحواجز. كان يوما مشهودا ذلك الذي استقبلنا فيه جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه. وإن كنت أنسى فلن أنسى مساء يوم، فاتح شتنبر 1975، ونحن بالقصر الملكي العامر بالرباط. ولن أنسى ما قاله جلالته، ومازال صداه يرن في الأذن و القلب والوجدان حتى وإن مرت عليه 47 سنة، وهو يذكرنا بالموعد الذي حدده لتحرير الصحراء ذاكرا قدس الله روحه، أن دورنا ليس فقط في تحرير الصحراء، بل يجب التفكير في وضع مخططات كفيلة بالنهوض بالمستوى الاقتصادي وتغيير وجه الحياة الصحراوية، التي تتسم بالتنقل، وجعلها حياة يطبعها الاستقرار، وهذا رهين بأهل الصحراء. لأن اهلها أعرف بمشاكلهم. وأضاف جلالته أننا سندخل الصحراء فاتحين آمنين مطمئنين، لنجدد صلة الرحم التي قطعها الاستعمار. وختم جلالته بالقول، إذا لم تكتب لكم المساهمة في تحرير الوطن، من ربقة الاستعمار فإن
الفرصة مواتية لكم الآن لتشاركوا في معركة استكماله. وفي اليوم الموالي كتبت الصحافة الوطنية بعناوين بارزة: -جلالة الملك يستقبل وفدا من المناضلين والشباب والمثقفين الصحراويين…. سندخل الصحراء فاتحين آمنين مطمئنين وهكذا يتضح جليا اننا كشباب صحراويين وحدويين. لم نتجاوز يومها أواسط العقد الثالث ومنا من يوجد في بدايته. كنا أول من اطلعه جلالة المغفور له بعزمه إرسال مسيرة خضراء، قبل الإعلان عنها علنا في خطاب سامي وجهه للأمة، من مراكش بتاريخ 16 10 1975. ما قمنا به كان على خطى سير الآباء والأجداد ونهجهم. وكلنا حماس متدفق، لم ننتظر إشارة ولا أوامر أو تعليمات تأتي الينا. ودافعنا في ذلك وما نتغياه هو خدمة الوطن والتعلق بالمقدسات والمساهمة في الدفاع عنها بالغالي والنفيس، ولكن كان بالإمكان الا تبلغ المرام، لو لم نجد ملكا حكيما يستمع إلى نبض شعبه وتطلع رعاياه، بغض النظر عن سنهم واختلاف مشاربهم، شأنه في ذلك شأن والده المنعم بكرم الله وهو ما ورثه عنهما وارث سرهما الجالس على عرش الآباء والأجداد جلالة الملك محمد السادس دام عزه وعلاه.