يجسد النموذج التنموي الجديد رؤية طموحة واستشرافية تشكل قوام مرحلة جديدة حدد لها صاحب الجلالة الملك محمد السادس شعار “المسؤولية والإقلاع الشامل”.
وبما أن عيد العرش المجيد يشكل دائما محطة لجميع المغاربة، ملكا وشعبا، لتشخيص وتقييم الإنجازات، من أجل التعبئة الجماعية لمواجهة العقبات التي من شأنها أن تعرقل رفاهية وتقدم المملكة، فإن الذكرى الثانية والعشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين تعتبر فرصة مثالية للقيام بذلك، بما أنها تتزامن مع شروع اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي أوكلت إليها مهمة بلورة خارطة الطريق هذه، في جولة لعرض خلاصات التقرير العام المتعلق بهذا النموذج التنموي على الفاعلين الجهويين والترابيين والنسيج الجمعوي والسوسيو-اقتصادي في كل جهة من جهات المملكة. ومن شأن تنفيذ توصيات هذا المشروع المستقبلي، الذي يرسم ملامح المملكة في أفق عام 2035، الارتقاء بالظروف المعيشية للمغاربة قاطبة، وأن يمكن المملكة من المضي قدما صوب مستقبل مزدهر.
وفي مظهر آخر من مظاهر الالتحام الوثيق بين العرش والشعب، شدد جلالة الملك مرة أخرى على ضرورة جعل المواطن المغربي في صلب عملية التنمية والغاية الأساسية منها.
ومن خلال تجديد نموذجه التنموي، يطمح المغرب إلى المضي قدما على درب التقدم والرخاء، من خلال تجاوز نقائص النموذج القديم، الذي أبان عن محدوديته في ما يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق المجالية. وقد قامت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي في هذا الصدد، وكما أكد على ذلك جلالة الملك في خطابه السامي بمناسبة الذكرى الـ66 لثورة الملك والشعب (20 غشت 2019)، بمهمة ثلاثية “تقويمية واستباقية واستشرافية، للتوجه بكل ثقة، نحو المستقبل”، مع الاعتماد على مختلف مكتسبات الاقتصاد المغربي خلال العشرين سنة الأخيرة.
ومن المنتظر أن يشكل هذا النموذج التنموي، في صيغته الجديدة، قاعدة صلبة، لانبثاق عقد اجتماعي جديد، ينخرط فيه الجميع: الدولة ومؤسساتها، والقوى الحية للأمة، من قطاع خاص، وهيئات سياسية ونقابية، ومنظمات جمعوية، وعموم المواطنين.
ولضمان انخراط المواطنين في النموذج التنموي الجديد ودعمه، اعتمدت اللجنة مقاربة تشاركية وشاملة ضمت كافة القوى الحية، لاسيما الشباب، كفاعل قوي في حاضر ومستقبل الأمة. وفي هذا الإطار، نظمت اللجنة جلسات استماع لاستشارة الأحزاب السياسية والفاعلين الاقتصاديين، والنقابات، ومختلف مكونات المجتمع المدني، والإدارة العمومية، والجامعات والهيئات الدولية المتخصصة، لتلقي مساهماتهم ومقترحاتهم بخصوص النموذج التنموي الجديد.
وقد أجرت اللجنة خلال عملية المشاورات هذه 70 جلسة استماع، و113 ورشة عمل و35 جلسة استماع مواطنة عقدت في مختلف المدن المغربية، كما تنقلت إلى أكثر من 30 موقعا داخل المغرب.
ومكنت جلسات الاستماع وورشات العمل هاته من الالتقاء بما يفوق 10 آلاف شخص بشكل مباشر، كما تنقل أعضاء اللجنة إلى العديد من جهات المملكة للقاء المواطنين وإجراء زيارات ميدانية، مكنت من تبادل النقاش مع السكان والتعرف على انتظارات الفاعلين والمواطنين، مما أفضى إلى اقتراح أربعة محاور للتحول. ويتعلق المحور الأول من النموذج التنموي الجديد باقتصاد منتج ومتنوع قادر على خلق قيمة مضافة ومناصب شغل ذات جودة، من خلال تأمين المبادرة المقاولاتية وتوجيه الفاعلين الاقتصاديين إلى الأنشطة المنتجة وإحداث صدمة تنافسية، على الخصوص.
وينص المحور الثاني على رأسمال بشري معزز وأكثر استعدادا للمستقبل، من خلال تعليم ذي جودة للجميع، ونظام للتعليم الجامعي والتكوين المهني والبحث العلمي يرتكز على حسن الأداء ويستند على حكامة مستقلة، وضمان الولوج لخدمات صحية ذات جودة وللحماية الصحية باعتبارها حقوقا أساسية للمواطنين.
أما المحور الثالث فيهم فرص إدماج الجميع وتوطيد الرابط الاجتماعي، من خلال الدعوة إلى تمكين النساء من الاستقلالية وضمان المساواة بين الجنسين والمشاركة. كما يروم هذا المحور النهوض بالتنوع الثقافي كرافعة للانفتاح والحوار والتماسك، وضمان قاعدة أساسية من الحماية الاجتماعية تعزز الإدماج والقدرة على التحمل وتجسد التضامن بين المواطنين.
وبخصوص المحور الرابع، فيهم على الخصوص مجالات ترابية قادرة على التكيف كفضاءات لترسيخ أسس التنمية، من خلال العمل على انبثاق “مغرب الجهات” مزدهر وحيوي، وضمان إعادة تنظيم متجدد للمستويات الترابية وتشجيع ترابطها، وتيسير تهيئة مندمجة للمجالات الترابية وتحسين السكن وإطار العيش وتعزيز الربط بالشبكات والتنقل، والحفاظ على الموارد الطبيعية وتقوية قدرات الصمود لدى المجالات الترابية أمام التغيرات المناخية. وقصد إطلاق دينامية التغيير واستدامتها، اقترحت اللجنة إرساء آليتين، تتمثل الأولى في ميثاق وطني من أجل التنمية، يهدف إلى تكريس النموذج التنموي الجديد كمرجعية مشتركة لكافة القوى الحية بكل تعدديتها.
أما المقترح الثاني فيتعلق بآلية للتتبع والتحفيز، تحت الإشراف السامي لجلالة الملك، مهمتها مواكبة الأوراش الاستراتيجية التي تندرج في الأفق الزمني الطويل وكذا دعم مسار التغيير.
وبإمكان هذه الآلية أن تساهم في ترسيخ روح المسؤولية وتعزيز نجاعة الفعل العمومي، خدمة لمصلحة كافة المغاربة، نساء ورجالا. كما تندرج هذه الآلية في إطار توازن السلط الذي ينص عليه دستور المملكة وبالنظر إلى الدور المركزي للمؤسسة الملكية كعماد الدولة والحاملة للرؤية التنموية وللأوراش الاستراتيجية ذات البعد الزمني الطويل والحريصة على تنفيذها بما يضمن مصلحة المواطنين. وفيما يتعلق بقضية التمويل، أفاد التقرير العام للجنة الخاصة بالنموذج التنموي بأن الإصلاحات والمشاريع المقترحة ستتطلب في إطار هذا النموذج تمويلا إضافيا يبلغ حوالي 4 بالمائة من الناتج الداخلي الخام سنويا في مرحلة البدء (2022- 2025)، وحوالي 10 بالمائة من الناتج الداخلي الخام في أفق 2030 .
بعد العمل الذي قامت به اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، والتي تضم 35 عضوا من مسارات أكاديمية ومهنية مشهود لها بالكفاءة، ودراية مهمة بالمجتمع المغربي والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، بالتشاور مع جميع القوى الحية للأمة، سيتمثل التحدي القادم في الانكباب الجاد على تنزيل التوصيات المهمة التي جاءت في هذا التقرير. وسيتعين على الأحزاب السياسية، عشية الانتخابات التشريعية المقبلة، أن تأخذ في الاعتبار جميع توصيات النموذج التنموي عند بلورة برامجها الانتخابية للسماح للحكومة المقبلة بالسهر على تنفيذها من خلال تدابير ومشاريع ملموسة.
و.مع/ح.ما