عادل الزعري الجابري : مستشفيات مكتظة، طواقم طبية منهكة وعثرات لا متناهية تشوب سلسلة التزويد باللقاحات. إنه المشهد المحزن الذي تقدمه اليوم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي كانت تتباهى منذ وقت ليس ببعيد، بكونها من بين أكثر الدول تطبيبا في العالم.
وحتى قبل بداية جائحة فيروس “كورونا” المستجد في مارس 2020، كانت المنظومة الصحية الأوروبية تظهر بالفعل مؤشرات تحيل على نفاذ طاقتها؛ لكن الخصاص في الكمامات الواقية، والمحلول الهيدرو-كحولي وأجهزة التنفس الاصطناعي، كشف عن هشاشة ومحدودية نموذج اقتصادي اختار وضع مصيره بين يدي دول أخرى بعيدة مثل الصين والهند، على حساب صحة وطمأنينة المواطنين.
ثم جاء لينضاف إلى هذه الأزمة، نقص التنسيق وتمظهرات العاطفة وكراهية الأجانب التي تمتثل لشعار “كل واحد لحسابه الخاص”، والتي دقت مسمارا آخر في نعش “أوروبا الموحدة” وفتحت الباب على مصراعيه للارتجال وأنصاف الإجراءات. فلعل الجميع يتذكر القيام في مدرجات المطارات بمصادرة الكمامات الواقية الموجهة لبلدان أجنبية، وحظر تصدير الأدوية أو المنتجات شبه الطبية التي أضحت نادرة، ناهيك عن الخلافات حول القيود الصحية المشتركة، لاسيما إغلاق الحدود الداخلية.
ومع مجيء عصر اللقاحات، بدأت معركة جديدة تمزق أوصال البلدان الأوروبية، والتي ازدادت حدتها بسبب مناخ عدم الثقة والارتياب السائد، أكثر فأكثر، بين مواطني القارة العجوز.
ومع ذلك، كان الهدف من وراء السياسة المشتركة لاقتناء اللقاحات هو قطع الطريق على المنافسة غير العادلة، وعلى نهج مقاربة “كل واحد لحسابه الخاص” وهيمنة المختبرات وقومية اللقاحات، لكن وعلى الخصوص، تجنب تكرار أزمة الكمامات الواقية، الاختبارات وأجهزة التنفس الاصطناعي.
لكن ما لبثت أن عادت ردود الفعل السيئة سريعا. ونتيجة للمماطلة، ورغبة المبالغة في التقنين والتفاوض والإفراط في النزعة الفردانية، يجد الأوروبيون أنفسهم اليوم في الصف الأخير للدول التي تقدمت في عملية مكافحة فيروس “كورونا”، من حيث اختيار اللقاحات وحجم الطلبات أو القدرة على التلقيح السريع للساكنة.
فبتفضيله التفاوض حول سعر اللقاحات على مدى توفرها، واحترام المساطر على الاستعجال، يخاطر الاتحاد الأوروبي بتغذية التشكيك في أوروبا. ونتيجة لذلك، بدأت بعض الدول مثل هنغاريا في التفاوض لمفردها وأحيانا سرا حول عقود مع مختبرات روسية وصينية، وذلك في إطار مقاربة أحادية الجانب غايتها إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وازداد هذا الوضع سوءا في ضوء التطورات الأخيرة بشأن سلامة لقاح “أسترازينيكا”، الذي علقت عشر دول استعماله بسبب آثاره الجانبية التي لم يتم إثباتها بصفة نهائية.
وإلى جانب كلفة الأرواح البشرية، عطلت الجائحة النمو الاقتصادي الأوروبي، مع سلسلة من الإفلاسات، والإغلاق الذي تم تمديده مرارا وتكرارا للكثير من القطاعات التي تسمى بـ “غير الأساسية”. فقد تكاثرت إعلانات إلغاء الوظائف خلال الشهور الأخيرة على الرغم من مخططات الدعم غير المسبوقة من أجل إسناد الاقتصاد الأوروبي. ففي يناير 2021، أضحى 15,7 مليون رجل وامرأة عاطلين عن العمل في الاتحاد الأوروبي، منهم 13,3 مليونا في منطقة اليورو.
وفي إسبانيا، هناك نحو أربعة من كل عشرة شبان دون سن الخامسة والعشرين لا يعملون، وواحد من كل أربعة في السويد والبرتغال، وحوالي واحد من كل خمسة في فرنسا.
بدوره، فإن القطاع السياحي الذي يعد محركا حقيقيا للاقتصاد الأوروبي، بـ 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، و27 مليون منصب شغل و2,4 مليون شركة، تأثر بشدة لدى الدول الأعضاء التي سجلت خسائر فادحة تصل إلى عدة مليارات من اليوروهات.
أما قطاع السيارات، الذي كان من بين أكثر القطاعات ازدهارا في أوروبا، فيسجل خسارة في الإنتاج تجاوزت 4 ملايين مركبة، أي 122 مليار يورو.
هكذا، يكتشف الاتحاد الأوروبي محدودية عمله ويدفع فاتورة إجراءاته المرهقة واختلال سياسته الجماعية. وإلى جانب أوجه القصور الظرفية، فإنه يراكم مظاهر ضعف الأداء: الافتقار إلى الرؤية الاستراتيجية في مجال الصحة، نمو اقتصادي يعيش فترة ركود، عملة معتلة في السوق العالمية، تخلف تكنولوجي صارخ في مواجهة العمالقة الأمريكيين والآسيويين، والافتقار الجوهري لتنسيق السياسات الجماعية.
لقد أضحت وعود التكتل بـ “أوروبا الرخاء”، الذي خصص له منصب مفوض مكلف بـ “تطوير نمط العيش الأوروبي” مجرد أمنيات لا غير. وهذا الوضع بالتحديد هو الذي يغذي الرغبة في “المغادرة” لدى بعض الدول الأعضاء، كما هو الحال بالنسبة للمشاعر المشككة في أوروبا لدى المواطنين. وفي المقابل، فإن اليمين المتطرف الذي يعيش أزهى أيامه في أوروبا يجد في ذلك التربة الخصبة.
الحدث. و م ع