التعددية اللغوية بين التحديات والفرص: حوار مع البروفيسور إبراهيم الكبلي من كلية ويليامز بالولايات المتحدة

0

اجرى الحوار.. عمر عاشي: يحتفي العالم أجمع هذه السنة باليوم الدولي للغة الأم تحت شعار “تعزيز التعدد اللغوي من أجل التعليم الشامل والاندماج في المجتمع”، وهو موضوع يتسم بطابع ملح في هذه الفترة التي تعرف تفشي جائحة كوفيد-19، ما يجعل مسألة الاندماج في التعليم والمجتمع أمام اختبار صعب.

وفي هذا الحوار مع وكالة المغرب العربي للأنباء بواشنطن، يناقش الأستاذ الجامعي المغربي بقسم الدراسات العربية وبرنامج الدراسات اليهودية بكلية ويليامز (ماساتشوستس)، إبراهيم الكبلي، تأثير الأزمة الصحية غير المسبوقة على التعليم وعلى مجتمعات أكثر من غيرها، في سياق رهانات التعدد اللغوي باعتباره تعبيرا عن التنوع والتراث العالمي، مع استحضار خصوصيات المغرب حيث شكل التنوع الثقافي، على الدوام، الركيزة والأساس للحفاظ على الوحدة والهوية.

كما تطرق الكبلي، وهو من مواليد ورزازات وخريج جامعتي بوردو الثالثة وبرينستون، إلى مدى قدرة إصلاح التعليم الذي قام به المغرب، ليشمل تاريخ الطائفة اليهودية وثقافتها، على بناء مواطنين واعين بتراثهم المتعدد.

كيف يمكن للتعدد اللغوي، برأيكم، أن يساهم في الاندماج بالمجتمع، خاصة في ظل ظروف هذه الأزمة غير المسبوقة التي تؤثر أيضا على التعليم؟

يمكن القول إن الجائحة كانت لها تداعيات كارثية على التعليم. ويتعين علينا جميعا أن نتعلم كيفية التصرف بشكل مختلف وفعال وناجح. نحن بحاجة إلى إعادة ابتكار أدواتنا التربوية، وإعادة تسطير أهدافنا ووضع طرق مبتكرة لتشجيع تلاميذنا على التعلم، دون التضحية بجودة التعليم الذي نقترحه.

إن الاحتفال بالتعدد اللغوي هذا العام، ما هو إلا تذكير مهم آخر بأنه يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار جميع التعبيرات عن الحقائق اللغوية لطلبتنا ومجتمعاتنا.

فحقيقة أن العديد من التلاميذ لم يعد بإمكانهم الالتقاء حضوريا، يمكن أن يخلق وهما بأن هناك لغة عالمية واحدة فقط في مدرسة معينة، غير أن الواقع مختلف. ففي مجتمعات المهاجرين، كما هو الحال في الولايات المتحدة، فإن معظم التلاميذ متعددو اللغات.

وأنا أستعمل التعدد اللغوي هنا بمعنى أن الناس يأتون من بقاع مختلفة من العالم، وحتى عندما لا يتحدثون لغة أسلافهم بشكل متقن، فإن فهمهم للعالم أو لهويتهم ينبع بشكل أو بآخر من لغة الآباء والأجداد.

فالإدماج إبان الجائحة قد يكون صعبا جدا. ودون الخوض في تفاصيل كثيرة حول معنى الإدماج والقضايا التي يثيرها، أود ببساطة أن أقول إن ما أثارته الجائحة يتمثل في الفجوة الرقمية بين الناس في نفس البلد وعبر العالم. إذ تتأثر بعض الفئات السكانية أكثر من غيرها.

ذلك أن مجموعات ديمغرافية محددة لديها موارد أقل من غيرها، فالفجوة الرقمية بين من لديهم إمكانية الولوج إلى التكنولوجيا وأولئك الذين لا يتوفرون على تلك الإمكانية، كان لها تأثير على مختلف الفاعلين في المجتمعات المختلفة، وأدت إلى الحد من الإدماج بطرق مختلفة.

ولا يمكننا أن نعرف بالتحديد كيف يتأثر الإدماج قبل بضع سنوات. وتظهر المعطيات الأثر المتباين على مختلف الفئات والمناطق الجغرافية، ولكننا بحاجة إلى مزيد من الوقت لمعرفة كيف كان لكل ذلك تأثير على الإدماج وكيف واجهت المؤسسات التعليمية ذلك.

وفي غضون ذلك، فتحت الجائحة مجالا لمزيد من التبادل على المستوى العالمي. وقد أتاح الولوج العابر للحدود الذي توفره تكنولوجيات الاتصال ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي للمدرسين والطلبة الانخراط في محادثات حول أصل الطلبة أو الأساتذة، مما يخلق مساحة أكبر للمناقشات حول الأماكن واللغات والثقافات التي قد لا تكون جزء من البرامج الدراسية.

فمكالمات (زوم) ومجموعات النقاش أدخلت التعددية الثقافية واللغوية إلى منازلنا بطريقة غير مسبوقة.

فعلى سبيل المثال، نظمت أنا وزوجتي سلسلة من التظاهرات الثقافية بعنوان “زوم حول العالم” بين مارس وماي 2020. وبعد أسابيع من وضع الثقافات واللغات تحت المجهر من خلال دعوة أصدقائنا من بقاع مختلفة من العالم، من سنغافورة إلى ألمانيا، انفتح مجتمعنا على لغات وثقافات مختلفة. وقد تطورت هذه الفكرة الصغيرة في وقت لاحق لتتحول إلى برنامج قائم بذاته.

للغات تأثير مهم ومعقد على الهوية. كيف يمكننا الحفاظ على اللغات المهددة والتي تعد أيضا ناقلة للذاكرة الجماعية وأنماط فريدة للفكر والتعبير؟

إن اللغات هي بمثابة كنوز. لا تقدر بثمن، وفقدان كل لغة هو ضياع لمئات إن لم يكن آلاف من سنوات الذاكرة والتاريخ ومهارات ومعارف الشعوب والأماكن.

فعندما يتم هدم منزل من السهل إعادة بنائه، ولكن عندما تختفي لغة أو تصبح معرضة للخطر، فإن الرهان أعمق بكثير من أي خسارة مادية يمكن تعويضها. إنه ضياع لتقاليد الأشخاص الذين كانوا يتحدثون تلك اللغة وكذا لمفهومهم للزمان والمكان.

إن اللغات ليست فقط مجرد وسائل للتواصل، إنها أرشيفات ومواقع للتحول المستمر. وباعتبارها أرشيف، تحتوي اللغات على معلومات ثمينة حول التاريخ والأشخاص والجغرافيا.

وقد أوضح المؤرخ المغربي علي أزايكو كيف يمكن للغة الأمازيغية أن تساعدنا على تعلم الطبوغرافيا والتاريخ.

فمن خلال اللغة يمكننا معرفة المزيد عن الاعشاب الطبية وكذلك التحولات السياسية خلال فترة معينة، فالنصوص الأمازيغية في سوس غنية جدا في هذا الصدد. ومع ذلك، فإن اللغات تتطور أيضا وتدمج أشياء جديدة في أنظمتها لتعكس التطورات التي تحدث في أي مجتمع يتحدث بها.

وبعد إبراز أهمية اللغة، أعتقد أن الحفاظ عليها يجب أن يكون مهمة المؤسسات المجتمعية والتعليمية والثقافية لكل بلد.

ففي مجتمع ما، يجب أن يشعر الأشخاص الذين يتحدثون لغة معينة – وخاصة إذا كانت معرضة للخطر أو التهميش- بالفخر لامتلاكهم هذا الامتياز المتمثل في التحدث بهذه اللغة واستخدامها. ويتعين أن يشعر كل فرد في هذا المجتمع بمسؤولية نقل هذه اللغة إلى أبنائه وأحفاده.

وعلى المستوى التعليمي، فإن المدرسة العمومية هي الفضاء الأول الذي تحدث فيه التنشئة الاجتماعية المنهجية. إن سياسة تعليمية متعددة اللغات تفرض تعليم وتعلم اللغات المحلية هو أمر ضروري للحفاظ عليها.

فمختلف البلدان لديها مقاربات مختلفة ، ولكن الأهم هو أن الحفاظ على لغة يتطلب من السلطات التعليمية جعل تعلم هذه اللغة ضروريا في التعليم الثانوي أو في عدد محدد من السنوات.

وبالفعل، فإن تعليم اللغات المحلية مفيد للجميع. ويمكن من خلق الشعور بالمواطنة المشتركة والانتماء إلى مجتمع مبني على قيم أخلاقية مشتركة.

وفي الاخير، يجب تشجيع الإنتاج الثقافي باللغات المحلية والمهددة بالانقراض بشكل استباقي. وعلى سبيل المثال، من الأدب إلى السينما والموسيقى، يجب تمويل الإنتاج الثقافي باللغات المهددة بالاندثار ونشره. ويتعين أن يشارك متخصصون في هذه العمليات لتحقيق أفضل النتائج الممكنة بدون إضفاء طابع فولكلوري على المتحدثين باللغة وتراثهم الثقافي.

كيف تنظرون إلى الوضع في المغرب المعروف بتنوعه اللغوي المنصوص عليه في الدستور؟  هل يمكن لتدريس اللغات بما فيها الأمازيغية أن يحقق تطلعات تدريس تربوي فعال؟

إن المغرب بلد يتميز بتنوعه اللغوي. بين الأمازيغية والدارجة والعربية والفرنسية والإسبانية، يتحدث المغاربة أو يفهمون لغتين على الأقل. هذا التنوع اللغوي يغذي إحساس المغاربة بالهوية ويوسع آفاق ما يمكنهم فعله.

إن اعتراف دستور سنة 2011 بهذا التنوع اللغوي يشكل خطوة مهمة في اتجاه التبني والاندماج الكاملين للتعددية اللغوية في البلاد. سيكون إدماج هذا التنوع اللغوي في الإدارة ومنظومة العدالة والاقتصاد والتعليم والثقافة بمثابة خطوة أكثر تأثيرا. وفضلا عن ذلك، أصبح المغرب وجهة لآلاف المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، الذين حملوا معهم لغاتهم إلى المشهد اللغوي المغربي، مما يثري خارطة هذا المشهد اللغوي بالبلاد.

وهكذا فإن المغرب يتوفر على فرصة فريدة للاستفادة من هذا الثراء اللغوي، وهذا القرب من الأسواق العالمية في أوروبا وأمريكا.

إن نظام تعليم قوي يتطلب أداء عاليا في اللغة الأمازيغية والدارجة والفرنسية والإنجليزية / أو الإسبانية من شأنه أن يساعد المغرب على تكوين جيل من المواطنين المتجذرين في الثقافة المغربية مع ارتباط قوي بالعالم.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن التوفر على نظام تعليمي يجمع بين إتقان اللغات المغربية والأجنبية وتكوين أكاديمي صارم، من شأنه أن يخلق أيضا فرص عمل وسيتيح فرصا للعديد من خريجي المدارس المغربية للعمل والدراسة في الخارج.

وأعتقد شخصيا أن الأمازيغية ستكون لغة المستقبل للعديد من سكان شمال إفريقيا. إنها مساحة مفتوحة للترجمة والدراسات الأدبية والعمل الأنثروبولوجي والمبادرة الاقتصادية. ففي اليوم الذي قررت فيه الجامعات الأمريكية دمج الدراسات الأمازيغية في أقسامها، أصبحت السوق المحتملة لهذه اللغة وثقافتها مهمة.

وبالإضافة إلى هذه الاعتبارات، فإن اعتراف المغرب بثقافته الأمازيغية من خلال إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 2001 وإضفاء الطابع الدستوري على الأمازيغية في 2011 ساهم بدون شك في تطوير المواقف. ويجب مع ذلك دمج هذه المبادرات في منظومة طويلة الامد تسعى إلى بناء مجتمع حداثي مع اقتصاد عالمي.

إن تكوين جيل جديد من المغاربة المتجذرين في مختلف الثقافات المغربية سيستفيد أكثر من تعليم أعمال المفكرين الرواد.

وسيغتني الرصيد الفكري والثقافي للطلبة المغاربة عندما يكتشفون عوالم المختار السوسي كعالم وكمتحدث بليغ باللغتين العربية والأمازيغية.

إن أعمال الخطيبي حول ثنائية اللغة واللغة المزدوجة، سيجعل الطلاب أمام التعقيد العاطفي والثقافي للغات التي يتعاملون معها.

وفي هذا الصدد فقد نظم الخطيبي مؤتمرا كلاسيكيا حول تعدد اللغات في الرباط عام 1981، ومن شأن قراءة أعمال كيليطو، المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية، أن يفتح آفاقًا للتفكير أمام الأجيال الصاعدة لقراءة العالم باللغة العربية.

لقد أنتج الباحثون والأدباء المغاربة عددا هائلا من الكتب التي يمكن أن تنير أي إصلاح تعليمي لغوي يهدف إلى تكوين المواطنين المغاربة في المستقبل.

قام المغرب مؤخرا بتنفيذ إصلاح مدرسي يدمج تاريخ وثقافة الطائفة اليهودية. كيف تنظرون إلى ذلك؟

لا يسعنا إلا أن نرحب بأي إصلاح تربوي يروم تعليم الطلاب المغاربة – وبالتالي المجتمع – بأن يكونوا فخورين بتنوعهم اللغوي والثقافي والديني. كان اليهود البربر / الأمازيغ في المغرب قبل دخول اللغة العربية والدين الإسلامي، وإصلاح المناهج الدراسية التي تعيد الاعتبار لهذا التاريخ وتكشف كيف تدبر اليهود والبربر والعرب والمسلمون، أمر عيشهم المشترك في القرى والمراكز الحضرية على مدى ستة عقود ماضية، وهو أمر يستحق التشجيع.

كما أن الأكاديميين المغاربة، مثل البروفيسور عمر بوم من جامعة كاليفورنيا، قاموا بعمل رائع حول تجذر الثقافة اليهودية في المغرب وغيره.

وأنتجت السينما المغربية بدورها أشرطة وثائقية وأفلاما طويلة ممتازة كشفت عن جوانب مختلفة من العلاقات اليهودية-الإسلامية في البلاد. وينبغي إثارة انتباه الطلاب أيضا إلى هذه الأفلام. كما يتعين تشجيع المدرسين على دمجها في مناهجهم الدراسية، ويجب تشجيع الطلاب على التفاعل معها.

وقد تطور فرع من الأدب المغربي مخصص بالكامل ليهود المغرب في السنوات الأخيرة. روايات محمد عز الدين التازي وإدريس الميلياني وحسن آيت موح وإبراهيم الحريري وغيرهم، تناولت اليهود المغاربة الذين يعيشون مع المسلمين في الأحياء الحضرية والمناطق الريفية.

بعض هذه الروايات التي كتبت باللغتين العربية والفرنسية، يمكن إدراجها كجزء من منهاج الدراسة بالسلك الثانوي.

وستزود الطلاب المغاربة بالمعارف والأدوات التحليلية التي يحتاجون إليها لفهم تاريخهم  والافتخار بماضي المغرب المتنوع، وتقدير الجهود التي تبذل اليوم لإعادة تأهيل التراث اليهودي للمغرب.

يجب أن يتعلم الطلاب اللغات اليهودية المحلية، مثل حاكيتيا والبربرية اليهودية. وقد أبدع الأكاديميون المغاربة، مثل سيمون ليفي ومحمد المدلاوي وحاييم الزعفراني، مصادر مهمة يمكن الاستفادة منها في هذا الصدد. وبما أننا نتحدث عن اللغة، فإن مساعدة الطلاب على التفكير في عبارات مثل “لجامع نوداين” (كنيس اليهود) (بالأمازيغية) و “لمدينت نوداين” (مقبرة اليهود)، وغيرها من العناصر الطوبوغرافية  من شأنها أن تكون فعالة للغاية في الكشف عن كيفية حضور التاريخ اليهودي للمغرب في الفضاء واللغة. الفضاء والطوبوغرافيا مهمان لاسكتشاف اليهود المغاربة.

ومؤخراً، نشرت مؤرخة الفن المقيمة بالرباط نادية صبري كتاباً مهما للغاية بعنوان “مناظر من المغرب اليهودي”، حيث يتطرق مجموعة من الأكاديميين والفنانين إلى جوانب من ماضي اليهود المغاربة. 

هذا العمل سيساعد الطلاب على تعلم التاريخ والمناهج الجديدة للتفكير في الذاكرة والفن. إن إصلاح البرامج الذي يأخذ في الاعتبار تنوع الالتزامات إزاء التراث اليهودي والإسلامي للمغرب، ويعكس التنوع الجغرافي للحياة اليهودية في مختلف مناطق المغرب هو بلاشك مهم للبلاد وللمواطنين.

الحدث. و م ع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.