إسبانيا: الأزمة الكتالانية تستأثر باهتمام الساحة السياسية خلال 2017 كحدث غير مسبوق في التاريخ الحديث للبلاد

0

إذا كانت هناك قضية استأثرت بشكل كبير باهتمام الساحة السياسية بإسبانيا وأرقت مختلف الفاعلين والمهتمين خلال هذه السنة التي هي في طريقها إلى الرحيل فإنها تبقى الأزمة الكتالانية بتداعياتها الكثيرة والمتنوعة وكذا بالقرارات غير المسبوقة في تاريخ الديموقراطية الإسبانية التي واكبتها .
وإذا كانت التوجهات الانفصالية في كتالونيا ليست وليدة هذه السنة ( 2017 ) ما دامت الأحزاب القومية الكتالانية كانت ولا تزال تعلن بكل وضوح عن رغبتها في استقلال هذه المنطقة فإن ما ميز تحركها في الأشهر الأخيرة أن مطالبها كانت أكثر حدة خلال هذا العام إلى درجة دفعت زعمائها عبر ممارسات وقرارات إلى خلق حالة توتر غير مسبوق في إسبانيا تداعت معه العديد من المسلمات التي كانت إلى الأمس القريب غير قابلة للطرح أو المساءلة .
لقد أدى تحدي الانفصاليين الكتالانيين للدولة المركزية الإسبانية إلى أزمة سياسية لم يسبق لها مثيل في إسبانيا حتى أن الخبراء والمحللين اعتبروها من بين أخطر الأزمات التي كان على السلطات المركزية في مدريد أن تواجهها في تاريخها الحديث منذ محاولة الانقلاب التي قادها في فبراير 1981 حوالي 200 من قادة الحرس المدني الذين استولوا على مجلس النواب قبل أن تفشل هذه المحاولة وتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي .
وكان كارليس بيغدومنت قد أعلن منذ انتخابه على رأس الحكومة المحلية السابقة لكتالونيا في يناير 2016 عن توجهه وأكد تعهده والتزامه بتنفيذ خارطة الطريق التي اعتمدها قبل بضعة أشهر البرلمان الجهوي لمنطقة كتالونيا والتي تنص على إطلاق مسلسل سياسي يقود حتما إلى إنشاء كيان جديد ” على شكل جمهورية ” في هذا الإقليم الذي يساهم بنسبة حوالي 20 في المائة من الناتج الداخلي الخام لإسبانيا.
وشكل هذا الإعلان تمهيدا مفزعا لأزمة سياسية خطيرة أدخلت إسبانيا بكل مكوناتها طيلة سنة 2017 في دوامة من القلق والترقب خاصة بعد إعلان بيغدومنت في يونيو الماضي عن إجراء استفتاء حول استقلال إقليم كتالونيا نظم في الفاتح من أكتوبر الماضي رغم كل المحاولات التي بذلتها مدريد لوقفه وإجهاضه وصلت إلى حد حظره من طرف السلطات القضائية الإسبانية.
وتواصل مسلسل تكسير العظام بين دعاة الانفصال والحكومة المركزية الإسبانية بقرارات ومواقف زادت من تأجيج الوضع خاصة بعد تصويت البرلمان الجهوي لكتالونيا في 27 أكتوبر على قرار أعلن بصفة واضحة لا لبس فيها أن منطقة كتالونيا ” أصبحت دولة مستقلة على شكل جمهورية ” ب 70 صوتا مؤيدا للاستقلال مقابل 10 أصوات رفضت هذا المنحى بينما امتنع عضوان آخران عن التصويت وذلك في غياب أغلبية أحزاب المعارضة التي انسحبت خلال هذه الجلسة. 

وعلى الرغم من النداءات المتكررة التي وجهتها الحكومة المركزية الإسبانية إلى السلطات الكاتلانية من أجل التخلي عن مشروعها الانفصالي فإن هذه الأخيرة لم تمتثل واستمرت في الاستخفاف بالنظام الدستوري وتشريعات الحكم الذاتي الذي تتمتع به هذه المنطقة يقودها ويؤطرها في كل هذا انشغال واحد هو ” الوصول إلى تحقيق ما تعتبره عملية سيادية بكل ما تحمله الكلمة من معنى ” .
وأمام هذه المواقف غير المسبوقة من طرف الحكومة المحلية لإقليم كتالونيا ولمعالجة هذا الوضع كان على الحكومة المركزية الإسبانية أن تعتمد بعد يوم واحد على الإعلان الأحادي الجانب من طرف البرلمان الجهوي لكتالونيا عن استقلال الإقليم قرارا كان بدوره غير مسبوق في التاريخ الحديث لإسبانيا وهو تفعيل الفصل 155 من الدستور من أجل ” استعادة النظام الدستوري ” في المنطقة .
وقدمت سلطات مدريد حزمة من التدابير والإجراءات التي يتضمنها هذا الفصل الدستوري إلى مجلس الشيوخ ( الغرفة العليا بالبرلمان ) من أجل المصادقة عليها وهو ما تم خلال جلسة عامة عقدها المجلس وأعطى خلالها موافقته للحكومة المركزية على تفعيل هذه المقتضيات القانونية في إطار الاحترام التام لمقتضيات الدستور وذلك بهدف الحفاظ على وحدة البلاد وحماية مصالحها العليا .
لقد كان لابد لسلطات مدريد أن ترد على التحدي الانفصالي بإقليم كتالونيا عبر اعتماد مجموعة من الإجراءات والتدابير بدأت بموافقة مجلس الشيوخ للحكومة الإسبانية التي يقودها الحزب الشعبي على إقالة كارليس بيغدومنت رئيس الحكومة المحلية للإقليم وكذا نائبه أوريول جونكيراس بالإضافة إلى مجموع المستشارين ( الوزراء ) في هذه الحكومة .
كما تم في إطار نفس المقاربة حل البرلمان الجهوي لمنطقة كتالونيا وإخضاع الشرطة الكاتلانية ( موسوس ديسكوادرا ) لمراقبة السلطات المركزية الإسبانية إلى جانب الدعوة إلى انتخابات مبكرة بالإقليم تقرر إجراؤها يوم 21 دجنبر الجاري .
ورافق هذه التدابير والإجراءات شق قضائي تمثل بالخصوص في وضع أوريول جونكيراس النائب السابق لرئيس الحكومة المحلية الكاتلانية وسبعة مستشارين ( وزراء سابقين ) رهن الاعتقال الاحتياطي في إطار تحقيق حول تهم تتعلق ب ” التمرد والعصيان واختلاس أموال عمومية ” .
وفي الوقت الذي رفض فيه بيغدومنت وأربعة مستشارين آخرين ( وزراء ) المثول أمام العدالة في إطار نفس التحقيقات الجارية وفضلوا الاغتراب ببلجيكا لا يزال أوريول جونكيراس ووزير الداخلية السابق في الحكومة المحلية لكتالونيا رهن الاعتقال الاحتياطي.
كما جدد أحد قضاة المحكمة العليا الإسبانية الأسبوع الماضي استمرار وضع رئيسي جمعيتين تؤيدان استقلال إقليم كتالونيا رهن الاعتقال الاحتياطي وهما جوردي سانشيز رئيس الجمعية الوطنية الكاتلانية وجوردي كويكسارت رئيس جمعية ( أومنيوم كولتورال ).
وقرر نفس القاضي إلغاء وسحب مذكرة التوقيف الأوربية التي كانت السلطات القضائية الإسبانية قد أصدرتها في حق كارليس بيغدومنت الرئيس السابق للحكومة المحلية لكتالونيا وأربعة وزراء آخرين .
بالفعل لقد كان مسلسل الأزمة الكاتلانية الذي لم تنتهي فصوله بعد مليئا بالأحداث والتطورات التي لم يكن بالمطلق التنبؤ بتداعيات وتأثيرات بعضها على المشهد السياسي الإسباني.
ومن شأن نتائج الانتخابات المبكرة التي ستجري على مستوى منطقة كتالونيا يوم 21 دجنبر الجاري أن تحدد بالملموس التوجهات والسياقات التي ستتخذها في الأيام القادمة هذه الأزمة التي كانت بحق غير مسبوقة في التاريخ الحديث لإسبانيا.

ح/م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.