الواحات .. جنان مهجورة

0

جمال الدين بن العربي: يبدو “مهدي”، الذي ولد وعاش في الواحات المتواجدة في الرشيدية، وكأنه يتحسر على واقع واحي تغير مع توالي السنين والأيام، يجلس وهو يستظل بنخلة باسقة يعود تاريخ غرسها إلى عشرات السنين متذكرا “الجنة الخالدة” التي بدأت تشيح رداء الألق عنها.

“مهدي” من بين عشرات الشباب الذين سمعوا عن الواحات وعن مزاياها من شيوخ القصور والقصبات الذين لم يذخروا جهدا لنقل شعورهم العارم والفرحة المكتملة بمنتوجات واحات خلدوا ذكرها في كلماتهم وأشعارهم وقصصهم المتنوعة الحافظة لموروث ثقافي لم ينضب.

“الجنة المهجورة” كما يسميها مهدي، تأتي قيمتها من تراثها الباذخ وأناسها البسطاء الذين أسسوا من جريد نخلها وترابها حضارة معمارية محيطة بواحات تعطي لزائرها نظرة عن نوعية الإنسان الذي يعيش في هذه الأماكن ذات الخضرة، رغم الظروف المناخية القاسية المتسمة بالجفاف شبه الدائم.

وعن سبب تسميته لها بـ”الجنة المهجورة”، أكد مهدي أن الزحف العمراني وتغير الأحوال الاقتصادية وتوجه العديد من شباب المنطقة إلى خارج المجال الواحي للبحث عن موارد رزق جديدة، أفرغ الواحات من بعض سواعدها وقوتها البشرية، مما أدى إلى “هجران غير مقصود” لجنات لو عمل الشباب على الاهتمام بها لاستمرت في خضرتها.

ويظهر الحاج أحمد الادريسي متشبثا برأي آخر في نظرته للواحات التي عاش فيها ردحا من الزمن، وكان شاهدا على أحداث ووقائع تبين أنها لم تكن مكانا للعيش العادي وتوفير المعيش اليومي، بل ساحة للثقافة والفكر والإبداع من أجل الاستمرارية.

ولعل هذا الرأي يستمد قوته من الواقع الذي عاشه هذا الرجل الثمانيني، ويؤكده عبد العزيز الطاهري أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، بكون الواحات تتميز بغنى موروثاتها وتراثها المادي واللامادي، خاصة ما يتعلق بالعمارة الطينية والفنون المحلية وأشكال الرقصات والفلكلور والأهازيج والأزجال واللباس والتنوع اللغوي.

وبساطة المعمار الواحي الطيني أحد مميزات هذه الجنة المهجورة فهو مجال قاوم عوادي الزمن ولا يزال يشع بحضارة ضاربة في القدم، لاسيما أنها تتميز، كما يقول الأستاذ الطاهري، ببساطة أدواتها وانخفاض كلفتها المادية وتماسكها وخصائصها الإيكولوجية التي تجعلها تتكيف مع تقلبات المناخ وأحوال الطقس، وهذا ما جعل بعض المآثر والمنشآت العمرانية تصنف من طرف اليونسكو تراثا عالميا مثل قصر آيت بن حدو سنة 1987.

في رؤيته لهذه الجنة المهجورة على المستوى الثقافي، يقول زايد جرو الكاتب المهتم بالشؤون الثقافية بجهة درعة تافيلالت، إن واحات المنطقة “فضاء مكاني مميز بأشجار باركها القرآن الكريم، فيها النخيل والزيتون والرمان والأعناب، كانت مصدر عيش الإنسان الواحي ومصدر إبداع شعر الملحون والأمثال، نمت بها الثقافة المحلية وبها امتدت وما زالت لحد الآن، ولا يمكن للزائر المحلي أو الأجنبي أن يزور درعة تافيلالت دون أن تستهويه طبيعتها ومميزات ساكنتها”.

وأبرز أن “المزروعات تنمو وتخضر بسواعد فلاحين بسطاء يكدون يوما بعد يوم في السنوات العجاف والسمان، بغذاء يومي من المنتوجات الواحية الأصلية، مثل البصل والثوم والجزر والتين واللوز والتمر والحليب ومشتقاته”.

فلاحو الواحات بجهة درعة تافيلالت يظهر عليهم الرضا الدائم، وعلى شفاههم الحمد والشكر في الانقباض والانشراح، يقول زايد جرو، قبل أن يضيف “البساطة والابتسامة والعلاقات الحميمية متأصلة فيهم، ولا يمكن أن يستغنوا عن فلاحتهم رغم تكبدهم الخسارة أحيانا، يفرحون لبزوغ الشمس للمس التراب دون ملل ولا كلل، ولا يمر يوم دون أن يباشروا العمل في أرضهم التي فيها رزقهم”.

وأضاف “الحديث معهم يشفي العليل ويخلقون الإمتاع والمؤانسة بالبساطة والكلام المرصع، وسافر الملحون من الواحات إلى مراكش وفاس ومكناس، وثقافتها المحلية ممتدة وما زالت حية، ولا يمكن للزائر المحلي أو الأجنبي أن يزور درعة تافيلالت دون أن تستهويه طبيعتها ومميزات ساكنتها”.

القصور والقصبات بواحات درعة تافيلالت تشكل إرثا ماديا قويا، لها الوقع الإيجابي على نفسية الزائر، وتخلف لديه ردود فعل قوية فيها انشراح كبير، وفيها أيضا حفظ للذاكرة الفردية والجماعية، وهي البنايات التي لم تستطع الحداثة أن تمحو آثارها في البلاد أو تمحو وقعها على العباد، لأنها حفرت لنفسها أخدودا في مخيلة الإنسان، حيث خرجت من الإطار الجغرافي المعهود إلى الإطار المخيالي الذي لا يستطيع أحد أن يتدخل لمسح أو مسخ معالمه، إنها بنايات ظلت شامخة رغم مرور الأحقاب، تركت الناظر والمشاهد يحلم بماض انتهى ولم ينته.

العيش في الواحة غير مكلف لكنه يحتاج إلى نفس طويل من الصبر والتأقلم مع الطبيعة الحياتية المستمدة من طقوس غابرة ومن عادات متأصلة، حيث يقول زايد جرو إن الناس يسكنون بها بين جدران القصر وهم أسرة واحدة “يقفل الباب الكبير على فرحهم وعسرهم وشدتهم، يتألم الواحد في المدخل ويحن قلب الجار في قعر الدرب، يتجمع الناس في المواسم والأعياد، وتعاد الذكريات وتتكرر الأحداث فتطاوعهم الذكرى بحرقة فتغيب الكلمات الصغيرة وتنعدم الروابط”.

واعتبر أن الواحات بدرعة تافيلالت شكلت حلم الفنانين وهواة التقاط الصور والتوثيق والتصوير، وهي “جنة للزائرين والمقام الطيب للساكنة”، “فلا راحة ولا اطمئنان للذين شبوا بالمكان إلا بعد العودة لاحتضان الأنا من جديد، وهي الغذاء الروحي والمعالج النفسي لأثر الزحام بالمدينة الذي يخلفه هذا التزاحم وعلى تربية الأجيال”.

ورغم كل ذلك، فإن العمل يجب أن يتعزز من أجل تأهيل هذا الفضاء التراثي والإنساني، خاصة أن مساحة الواحات تقدر بنحو 46 في المائة من مساحة واحات المغرب، وهو ما انتبه إليه سكانها الذين اهتموا بتوفير المياه وتجميعها.

ويعد المجال الفلاحي بهذه الواحات من أهم الأنشطة الاقتصادية المدرة للدخل بالنسبة لسكانها، لاسيما إنتاج التمور والصناعة التقليدية المعتمدة على ما جادت به المنطقة والمرتبطة باهتمامات الإنسان الواحي، منها المواد الطينية المستعملة لترميم القصور والقصبات.

وقد أبدع الإنسان الواحي وسائل من أجل تجميع المياه الشحيحة بفعل التساقطات القليلة، من بينها الخطارات المعتمدة كوسيلة لإدرار الماء في الواحة وتكثيف الزراعات المعاشية.

يؤكد امراني علوي، وهو رئيس المعهد المغربي للدراسات والتواصل الثقافي بالرشيدية، إلى أن الخطارات عبارة عن مجموعة من الآبار المتصلة فيما بينها بنفق يصرف المياه على مسافات طويلة من مكان تواجد المياه الباطنية في اتجاه الواحة التي يراد سقيها.

ويعتبر زايد جرو أن توزيع الأراضي بالواحات ينبني على العرف الجماعي الذي قنن حفر الخطارات ووزع المياه بتنظيم محكم لري الزراعة التقليدية التي لا تخرج عن الاستهلاك اليومي، لكونها بالكاد تغطي حاجيات الأسرة التي يكثر عدد أفرادها في الغالب، ولا يوجه للسوق إلا الفائض منها، فلكل فصل خضره وفواكهه، والتمر بأنواعه هو عماد أهالي الواحات يستهلك في كل الأوقات وبحجم كبير وخال من المبيدات ومتواجد بكثرة في كل بيت، سواء كان من النوع الجيد أو الرديء.

وأبرز امراني علوي أن ذلك يأتي لكون تقنية الخطارات تعتبر من الأساليب الصديقة للبيئة، لكونها لا تحتاج لمضخات مائية ولا لمصادر طاقية لرفع منسوب مستوى الماء ليصل إلى المجرى الرئيسي الذي يوصل الماء للحوض الذي يجمع الماء في بعض الخطارات.

وأوضح الأستاذ امراني علوي أن الخطارات تساهم في المحافظة على المياه نتيجة العمل بتقنية التوزيع المعتمدة على “النوبة”، أو “الطاسة”، مما يوفر غطاء نباتيا مهما يساهم في إيجاد توازن إيكولوجي بالمنطقة.

إلا أن الواحات تعرف بعضا من المشاكل المرتبطة بالتغيرات المناخية، وتراجع التساقطات المطرية، والهجرة نحو الخارج، والحرائق التي تأتي على عدد من المساحات، لاسيما في فصل الصيف.

هذا الواقع جعل العديد من الفعاليات المدنية، التي لها غيرة على الواحات وإنتاجها وأصالتها وتاريخها الكبير، تطلق مبادرات بشراء محركات لضخ المياه المساعدة في إخماد الحرائق في مهدها، بهدف تأسيس الحماية الذاتية والاستباقية.

وتبذل مجهودات أخرى من أجل إعطاء نفس جديد للواحات من حيث تهيئتها بتبني مشاريع لتنقية الأعشاش وتثمين مخلفات النخيل، وتقوية قدرات التنظيمات المحلية بتوفير معدات وآليات التدخل السريع لمحاربة الحرائق، وكذا تسهيل عمليات الولوج والتدخل داخل الواحات.

إن الواحات الخالدة الممتدة جغرافيا وإنسانيا تعيش على وقع جديد وتحتاج إلى مبادرات كبرى لإعادة توهجها وإبداعات أناسها الطيبين.

الحدث. و م ع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.