اللغة العربية وتحديات العولمة : خمسة أسئلة لرئيس قسم الترجمة العربية في مكتب الأمم المتحدة بجنيف محمد أوكماضان
عبد الحكيم خيران: يحتفل العالم في شهر دجنبر من كل سنة باليوم العالمي للغة العربية. وككل سنة، يتجدد السؤال عن واقع لغة الضاد ومكانتها بين اللغات الأخرى، وعن مدى قدرتها على مسايرة ما تفرزه العولمة الكاسحة من مصطلحات تقنية مستجدة.
في الحوار التالي يبسط الأستاذ محمد أوكماضان، أستاذ الترجمة في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة سابقا، ورئيس قسم الترجمة العربية في مكتب الأمم المتحدة بجنيف حاليا، رأيه بشأن واقع اللغة العربية في ظل مد العولمة الجارف، وما إن كانت العربية تعيش بالفعل أزمة، وكيف تساير المستجدات التي تفرزها العولمة من حيث المصطلحات التقنية الجديدة المتدفقة بقوة، وما إن كانت تملك مقومات الصمود والقدرة على المواكبة، وتقييمه للجهود المبذولة في سبيل تعزيز حضور لغة الضاد في ظل هيمنة باقي اللغات …
1- بداية، هل تشاطرون رأي القائلين بأن اللغة العربية تعيش أزمة لدى الناطقين بها؟ وما تجليات هذه الأزمة؟
لا أظن أن هناك أزمة عامة تخص اللغة العربية في حد ذاتها، أي من حيث هي أداة تعبير ووعاء للفكر والعلم والحضارة. لكن ربما يمكن الحديث عن أزمة ثقافية وعلمية وحضارية وتنموية تعم أقطار العالم العربي لأسباب كثيرة. وهذه الأزمة الحضارية المتغلغلة في واقعنا الحالي هي التي أدت إلى انحسار الإبداع والإنتاج باللغة العربية. أين نحن اليوم، مثلا، من الإبداع العربي الغزير الراقي الذي كانت تطالعنا به دور النشر العربية في جيل طه حسين والعقاد وزكي محمود وعبد الله كنون ونجيب محفوظ، أو في جيل عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وغيرهم كثير ممن أبدعوا باللغة العربية وساهموا في إثراء رصيدها وتطويعها للفكر الحديث؟
هناك إذن انحسار للإبداع باللغة العربية، وتدهور محزن لنوعية الكتابة بهذه اللغة، بل قلة اكتراث بها لدى الأجيال الناشئة، وضمور للوعي بأهمية اللغة القومية باعتبارها وسيلة للرقي والتقدم في شتى المجالات. لقد وقر في نفوس الناس عندنا اليوم، وخاصة الشباب، أن العربية رمز للتخلف والانكفاء على الذات، وأن إتقانها واستعمالها عبث لا طائل من ورائه ما دام ولوج سوق العمل ونيل الوظائف المهمة والمناصب العليا يتوقف أساسا على إتقان لغات أجنبية واكتساب المعارف والعلوم بهذه اللغات .
ومن تجليات ضمور العربية وقلة الوعي بأهميتها بل ازدرائها أحيانا في عقر دارها ما نراه من قلة الإصدارات والبرامج والإنتاجات الفنية والسينمائية بالعربية الفصحى، وازدياد اللجوء إلى العامية لترجمة المسلسلات الأجنبية مثلا، في حين كان معظم المسلسلات والبرامج الأجنبية إلى عهد قريب يترجم إلى العربية الفصحى، فكانت بذلك رافدا من روافد نشر العربية ووسيلة من وسائل إتقانها. وهذا الرافد يكاد ينضب معينه حاليا، ومعه معين الثقافة العلمية الراقية، التي انحسرت في وجه امتداد ثقافات الشارع والأمية ووسائل التواصل الجماهيري التي تنشر الغث والسمين، إضافة إلى “البلقنة” اللغوية بظهور استعمال لهجات محلية متعددة. كل ذلك أثر تأثيرا سيئا على اللغة العربية وأضعف من إسهامها الحضاري والفكري في العالم العربي.
2- ما تشخيصكم لواقع اللغة العربية في ظل مد العولمة الجارف؟ هل كان للعولمة أثر إيجابي أم سلبي على لغة الضاد؟
رغم التدهور الملحوظ للإنتاج الفكري بالعربية، كما ونوعا، في العالم العربي، فإن العربية حاضرة في المحافل الدولية، بل تواصل انتشارها على الصعيد العالمي، إذ يتزايد عدد المقبلين على دراستها من الأجانب، لأسباب عدة منها الفضول المعرفي والضرورات المهنية، وما إلى ذلك. أما العولمة فلا أظن أن لها تأثيرا حاسما على انتشار العربية أو انحسارها.
لا شك أن العولمة ساعدت على انتشار اللغات الأجنبية والإقبال عليها بسبب تشجيع المبادلات التجارية الدولية وتداول الأفكار والمنتجات الأجنبية وتنقل الأشخاص. كل ذلك فرض تعلم اللغات الأجنبية وأبان عن جدوى تعلمها على المستوى المهني والاقتصادي. لكن انتشار اللغات الأجنبية لا يقتضي بالضرورة إهمال اللغة القومية وتراجعها. بل العولمة في رأيي تتيح فرصا رائعة لتوسيع نطاق استعمال العربية للتبادل الفكري والعلمي بين البلدان العربية، من جهة، في ظل تشجيع الاتصالات بفضل العولمة، ولنقل المنتجات الفكرية والعلمية العالمية إلى العربية، من جهة أخرى.
على أنني أشك في أننا أحسنّا استغلال فرص العولمة لتطوير لغتنا وإثرائها، بل ظللنا -مع الأسف- مكتوفي الأيدي أمام مدها الجارف، بحيث نتأثر ولا نؤثر ونستهلك منتجات الغير بلغاته، أكثر مما نبدع بلغتنا أو ننقل إبداعات الغير إلى لغتنا، على أقل تقدير.
3- كيف تساير العربية المستجدات التي تنطوي عليها العولمة من حيث المصطلحات التقنية الجديدة المتدفقة بقوة؟ وهل تملك برأيكم مقومات الصمود والقدرة على المواكبة؟
إذا انطلقنا من واقع استعمال العربية في المحافل الدولية، داخل منظومة الأمم المتحدة وخارجها، أمكن القول دون تردد أنها أبانت فعلا عن قدرتها على مسايرة التطورات المتلاحقة في شتى المجالات القانونية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والعلمية، وغيرها.
فالعولمة بما أتاحته من دينامية قوية ونشاط ملحوظ، وتوسيع لآفاق الأفراد والمجتمعات، وكسر للحواجز بين البلدان، وتشجيع لتداول السلع وتنقل الأشخاص والأفكار والمنتجات المادية وغير المادية، تولِّد بانتظام كمية هائلة من المفاهيم الجديدة والمصطلحات التقنية في كل مجالات النشاط البشري. وهذه المفاهيم المستجدة سرعان ما تتسرب إلى وثائق الأمم المتحدة، التي تترجم أيضا إلى العربية، وبذلك تسهم الترجمة في الأمم المتحدة في وضع المقابلات العربية لهذا الكم الهائل من المفاهيم، ومن ثم نقلها وإشاعة استعمالها تدريجيا في العالم العربي.
وهكذا أثبتت العربية في الواقع قدرتها التامة على الاستجابة لمتطلبات العولمة والتطورات المتلاحقة على الصعيد العالمي في شتى المجالات. وهذا يدل على أنه عندما تتوافر الإرادة -والموارد الكافية- يمكن لأي لغة أن تحوّل طاقاتها الكامنة إلى حلول عملية لمقتضيات التعبير عن أحدث مفاهيم العصر، مهما تكن معقدة وشديدة التخصص.
4- ما تقييمكم لحال اللغة العربية في مجال الترجمة عموما، وفِي الترجمة التقنية والمتخصصة بوجه خاص؟
إذا نظرنا إلى العربية في مجال الترجمة في الأمم المتحدة، لا نتردد لحظة في الحكم بأنها بخير وعافية، وأن مستقبلها زاهر. ولكن إذا قيّمنا الإنتاج الترجمي في العالم العربي، نلاحظ أنه دون المستوى المطلوب، لا كما ولا كيفا. فإن ما تترجمه البلدان العربية مجتمعة اليوم، أقل مما تنتجه بعض البلدان الصغيرة، هذا على الرغم من إمكانات العالم العربي الهائلة.
ونوعية الترجمات عندنا تدهورت على نحو ملحوظ في العقود الأخيرة، مقارنة بمنتجات الرعيل الأول من المترجمين الذين جمعوا بين إتقان اللغة العربية إتقانا تاما والفهم الجيد أو التخصص المتعمق في المجال أو المجالات التي يترجمون فيها. فنحن إذا في حلقة مفرغة: نلجأ إلى اللغات الأجنبية لدراسة العلوم والاطلاع على الآثار العلمية الحديثة لأن لغتنا لا تمدنا بما يشفي غليلنا في هذه المجالات، ولغتنا لا تجد من يترجم إليها هذه الإنتاجات العلمية المعاصرة لأن الباحثين والطلاب منصرفون عنها، إذ يأخذون العلوم والتقنيات مباشرة من منهلها الأصلي وبلغاتها الأصلية.
5- هل نتوقع تراجع العربية أمام اللغات الاخرى، وخاصة الإنجليزية؟ وما سبل تعزيز حضورها في ظل هيمنة باقي اللغات؟ وهل تبذل مجامع اللغة العربية والجهات المعنية الأخرى ما يكفي من جهود في هذا الصدد؟
على الصعيد العالمي، لا أتوقع تراجع اللغة العربية من حيث عدد الناطقين بها ولا من حيث استعمالها في المحافل الدولية. ولكنها مع الأسف تتراجع من حيث إسهامها في نشر الفكر والعلم في البلدان العربية ومن حيث كونها وسيلة لإسماع صوت العرب وإيصال رسالتهم الحضارية إلى العالم.
وهي تتراجع أيضا في ظل هيمنة اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية في النظام التعليمي عندنا، وخصوصا في المدارس الخصوصية، وذلك بسبب تصورات خاطئة عند الآباء والمربين مفادها أن إتقان اللغات الأجنبية هو السبيل الوحيد إلى الرقي في المجتمع والنجاح في الحياة المهنية واغتنام الفرص الاقتصادية المغرية، وبناء بلد عصري متقدم، في حين ينظر إلى تعلم العربية على أنه مضيعة للجهد والوقت والموارد، على أساس أنها لغة بالية . وكل هذا طبعا خطأ ووهم لا أساس له من الواقع، فالعربية يمكن، إن أحسنَّا استعمالها وخصصنا الموارد الكافية لتعليمها وتطويرها ونشرها، أن تكون أفضل وسيلة للتقدم الحقيقي وتوطين العلوم والتقنيات العصرية في أرضنا وتشجيع الإبداع والفكر الأصيل في بلداننا.
وقد كانت المجامع واللجان المعنية باللغة العربية، في مشرق الوطن العربي ومغربه، تبذل قصارى الجهد في تطوير العربية وتطويعها وإثراء معجمها بما تحتاجه من المصطلحات الجديدة، وتيسير قواعدها على الناشئة والمتأدبين، كل ذلك ضمن للعربية القدرة على مواكبة تطور العالم والاستجابة للمتطلبات المستجدة باستمرار. لكن هذه المجامع أدركها الضعف الذي عم بلداننا وأعوزتها الموارد الكافية لمواصلة رسالتها النبيلة، فقل إنتاجها وخبا صوتها ولم نكد نرى لها تأثيرا يُذكر في تطور لغتنا بما يضمن لها الاستمرار والتجدد.
وسبيلنا إلى الخروج من هذا المأزق هو تجدد الوعي بأهمية اللغة العربية باعتبارها وسيلة فعالة لتحقيق التنمية والرقي الحقيقي على جميع الصُّعد، وتوافر الإرادة السياسية لتفعيل المجامع اللغوية من خلال تزويدها بالموارد الكافية لكي تستأنف دورها النشط في الحفاظ على لغتنا وضمان اطراد تطورها والحفاظ على بقائها لكي تواصل أداء رسالتها بين اللغات العالمية الكبرى، كما كانت في ماضيها المجيد.