تعيش أوربا في الوقت الحالي فترة لا تختلف عن العقدين اللذين سبقا الحرب العالمية الثانية من حيث النقاش والاستقطاب والتصادم بين أقصى اليسار وأقصى اليمين. وهذا يعني أن الجبهة الوسطية التي كونّها اليمين المعتدِل والليبراليون واليسار المعتدِل، وتناوبت على السلطة منذ خمسينيات القرن الماضي، وخلقت نوعا من التوازن دعّمته الطبقة الوسطى التي تقوَّت وانتصرت للديمقراطية والحرية في الغرب، (هذه الجبهة) بدأت تفقد تماسكها جرّاء اختراقها من طرف تيارات شعبوية وقومية شوفينية بَنَتْ خطابها على “نقاوة” الوطن الاثنية، وعلى ضرورة الحفاظ عليه من خلال خطاب عنصري معادٍ للمهاجرين والمجتمعات المتعددة ثقافيا.
أظهرت الانتخابات الأوربية الأخيرة تطورا ملحوظا لأحزاب أقصى اليمين أو من يسمون أنفسهم تيار “الهوية” داخل البرلمان الأوربي. وهذا التحول عرفته دول مهمة داخل الاتحاد الأوربي، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولونيا، وهو ما يعني أن الخطاب السيادي الوطني أصبح قويا داخل إحدى مؤسسات الاتحاد الأوربي المبنية على أساس مفهوم بناء كيان شبه فيدرالي له اختصاصات حقيقية تتجاوز الدولة الوطنية. وكأني بأحزاب “الهوية” تتبارى حول الريادة داخل مؤسسات الاتحاد لتفكيكها من الداخل. وهذا أمر غير مستبعد رغم استمرار الأحزاب الوسطية في تكوين أغلبية مريحة داخل البرلمان الأوربي.
عراقة تجربة فرنسا الديمقراطية لم تشفع لها لكي تكون الاستثناء؛ بل شكلت بلاد ثورة 1789-1799 قاعدة صلبة لهذا التحول الأوربي ذي الأبعاد التكتونية. عقب الانتصار التاريخي للتجمع الوطني (أقصى اليمين) في الانتخابات الأوربية، إذ حصل على 31،4 % من الأصوات، بينما لم يحصل حزب ماكرون (وسط ليبرالي) إلا على 14،6 %؛ فيما حصل الاشتراكيون على 13،8 %، وفرنسا المتمردة (اليسار الراديكالي) على 9،9 %، والجمهوريون (يمين، ورثة ديغول وشيراك) على 7،3 ٪%، اهتزّ كيان الاتحاد الأوربي المبني على التخفيف التدريجي للبنية الحوكمية للدولة القومية لصالح أوربا، ومعه اهتز كيان الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي أصبحت مشرفة على تعايش وشيك وصعب أو مستحيل بين رئيس فرنسي أوربي حتى النخاع ووزير أول محتمل آت من تيار مغرِقٍ في القومية لا يرى في أوربا إلا فكرة تضرب السيادة الوطنية ونقاوة “الشعب الأصلي” في النخاع.
الفوز التاريخي لأقصى اليمين في الانتخابات كان مُنتظَرا، وقد أظهر ضعف الأحزاب التقليدية، يمينية كانت أو يسارية، وعدم قدرتها على الدفاع عن الاتحاد الأوربي وأهميته للقارة العجوز ولفرنسا في آن واحد. لقد أصبحت الكتلة الناخبة الفرنسية متذمرة من الأزمة، ونجح “التجمع الوطني” (واليسار كذلك) في تسويق فشل النخبة السياسية التقليدية في إيجاد حل لها، ونجح كذلك في خلق أكباش فداء لهذ الفشل، ألا وهم المهاجرون واللاجئون وأوربا والدول الإفريقية وغيرها .
المفارقة كما قلنا أعلاه أن حزبا (التجمع الوطني) ذا توجه سيادي قومي ومناهض لفكرة أوربا، ككيان له سلطة شبه فيدرالية تفوق (في كثير من القضايا ومن ضمنها الهجرة) السلطة الوطنية للدول، هو من يتبوأ قائمة الأحزاب التي ستمثل فرنسا في إحدى أقوى مؤسسات الاتحاد الأوربي، أي البرلمان الأوربي.
ومن الآثار الجانبية لصعود أقصى اليمين الفرنسي في الانتخابات الأوربية هو إسقاط حكومة غابرييل أطال في فرنسا. هكذا فاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الطبقة السياسية الفرنسية ومجموع الملاحظين على مستوى أوربا حين أعلن حلَّ الجمعية الوطنية الفرنسية وتنظيم انتخابات تشريعية في الثلاثين من يونيو والسابع من يوليوز 2024. القرار لم يكن منتظرا نظرا لعدم ارتباط الانتخابات الأوربية بالشأن الداخلي ارتباطاً قويا؛ لكن الرئيس ماكرون لم يترك مجالا للشك في أن هناك اقْتِرانا قويا بين أوربا وفرنسا. الإرسالية الحقيقية هي أن فرنسا تلتصق بشكل وثيق بأوربا وما يقع على مستوى أوربا يؤثر في فرنسا والعكس صحيح كذلك. إن صوَّت الفرنسيون لصالح حزب يشكك في مدى أهمية أوربا لفرنسا فالرئيس الفرنسي يريد أن يعرف هل هذا صحيح في ما يخص أغلبيته الرئاسية على مستوى البرلمان الفرنسي.
لهذا فالأسباب التي ربما رشَّحت عملية حلِّ الجمعية الوطنية وإعلان الانتخابات من طرف الرئيس ماكرون متعددة؛ أولها الفوضى العارمة التي تسود داخل الجمعية، حيث يتناوب أقصى اليسار وأقصى اليمين على قصف الأغلبية الماكرونية الحاكمة (وهي في الحقيقة أقلية مدعومة من طرف الجمهوريين). لهذا فماكرون ربما حاول من خلال هذا القرار المفاجئ خَلْقَ شرْخٍ داخل التحالف الموضوعي اللاطبيعي الذي ولَّدته الماكرونية عند أقصى اليسار وأقصى اليمين؛ لهذا فهو يقول: إذا صوَّتَ 50 % من الفرنسيين في الانتخابات الأوربية لصالح الأحزاب “المتطرفة” على اليسار وعلى اليمين فذلك أمر سوف لن يتركه غير مبالٍ وكأن شيئا لم يَقعْ؛ لهذا فهو يحتاج إلى “توضيح” من الفرنسيين حول أية حكومة يريدونها؟ (لاديبيش، “انتخابات 2024: لماذا حل إيمانويل الجمعية: الرؤيا تتضح أسبوعين بعد القرار”، 22 يونيو/حزيران 2024).
وربما الهدف “الأسمى” (السبب الثاني؛ والأكثر إثارة لنوع من البداهة السياسية ذات البعد الأريب) هو أن الرئيس ماكرون يريد توريط أقصى اليمين منعدم التجربة والحنكة في تدبير الشأن العمومي والنقص من جاذبيته ومصداقيته قبل انتخابات 2027. وهذا وارد جدا، خصوصا أنه حسب مقال تحليلي نشرته جريدة لوموند يوم 18 يونيو/حزيران (“انتخابات 2024:
في حال فوز التجمع الوطني، إجراءات استعجالية غير قابلة للتطبيق”)، ما يقترحه جوردان بارديلا، زعيم أقصى اليمين في الانتخابات، حول تخفيض الضريبة على القيمة المضافة على الطاقة من 20 % إلى 5،5 % لخفض فواتير الكهرباء، وتمويل ذلك عبر تخفيض مساهمة فرنسا في الميزانية الأوربية، سيجعل فرنسا في مجابهة مباشرة مع بروكسيل ويقلل من دورها الريادي في أوربا، ما سيدفع ماكرون إلى رفع الفيتو في وجهه، خصوصا أن القرارات الكبرى تُتَّخَذُ على مستوى مجلس القمة الأوربي الذي يحضره الرئيس الفرنسي وليس الوزير الأول.
نية التجمع الوطني معاقبة آباء الأحداث (خصوصا من المهاجرين) الذين يرتكبون جرائم، هو إجراء مناف للدستور حسب المقال نفسه، لأن مسؤولية الآباء عن أبنائهم واردة، لكن العقاب الجماعي في حالة ارتكاب جرائم هو أمر غير مقبول حسب الدستور والقوانين المعمول بها. ربما الإجراء الوحيد الذي يبدو مقبولا (حسب المقال نفسه) هو الترخيص للأطباء المتقاعدين بالجمع بين التقاعد وراتب مقابل أدائهم الخدمة في مناطق متدنية الخدمات الصحية.
من جانبه يقول بارديلا إنه لن يكتفي بأغلبية مهترئة أو أقلية مدعومة من طرف اليمين، ولكنه يريد أغلبية مريحة للتمكن من تمرير الميزانية في الجمعية العامة دون اللجوء إلى الفصل 49.3 من الدستور، الذي يعطي الحق للحكومة في اتخاذ القرارت حتى في غياب مساندة برلمانية واضحة. أضف إلى هذا أن بارديلا يدعو إلى القيام بافتحاص شامل للمالية العمومية والتقرير آنذاك في ما إذا كانت الحكومة تتوفر على موارد لتنفيذ سياساتها أم لا. كل هذا يعني أن التجمع الوطني واعٍ بالفخ المحتمل الذي ينْصُبُه له ماكرون ويتخذ جميع الاحتياطات لتبرئة ذمته قبل الساعة. هذا ما يسميه المغاربة “لي فْراسْ الجمل فْراسْ الجمّال”.
ما يجعل أهداف ماكرون معقدة وربما بعيدة المنال هو تشتت الحقل السياسي المعارض لزحف اليمين وعدم وجود حلف قوي عريض مناهض لليمين المتطرف كما وقع في 2002 و2017 وإلى حد ما في 2022. على اليسار تم تكوين “جبهة شعبية” (ربما تّيَمُّناً بالجبهة الشعبية في الثلاثينيات من القرن الماضي، التي أنشِئت لمواجهة الخطر الفاشي. انظر كتاب سيرج بيرنستين، “فرنسا الثلاثينيات”، دار النشر أرموند كولين، 2002) تضم شتات اليسار. غير أن أحد أقطاب هذا اليسار، جان لوك ميلونشون، زعيم “فرنسا المتمردة”، يعتبر بارديلا فقط نسخة سيئة من ماكرون؛ بينما يعتبر الماكرونيون “فرنسا المتمردة” وزعيمها ميلونشون نزعة متطرفة على اليسار لا تختلف في تطرفها عن اليمين المتطرف (لوموند، “الماكرونيون و ‘المتمردون’: التتفيه المزدوَج للتجمع الوطني”، 18 يونيو/حزيران، 2018). وهو ما يعني أن الفرقاء المناوئين للتجمع الوطني يخدمون أجندته بشكل مباشر حين يقارنون بعضهم البعض به، ما يساهم في تطبيع علاقة الفرنسيين مع خطابه “المتطرف”.
على اليمين ينقسم الجمهوريون ما بين إريك سيوتي، الذي يقول بضرورة التحالف مع أقصى اليمين (واتخذ القرار لوحده فخلعه المكتب السياسي)، وبين من مازال يحلم بحلف عريض يضم اليسار والوسط واليمين ويعارض أقصى اليمين وأفكاره التي يعتبرها متطرفة. هكذا يساهم تشتت ما كان يسمى الحلف الجمهوري وتضارب أفكاره ومواقفه بشكل كبير في فوز محتمَل للتجمع الوطني وربما اكتساحه الساحة السياسية في فرنسا؛ وتعطيه استطلاعات الرأي سبْقا مريحا على منافسيه بـ 35 % من نوايا التصويت، بينما تحصل الجبهة الشعبية (تحالف اليسار) على 29 % وحزب النهضة الرئاسي (وسط ليبرالي) على 21 % (استطلاعات ت.ف.1، 21 يونيو 2021).
هل ستتحالف الجبهة الشعبية والنهضة الماكروني وجزء من الجمهوريين في الدور الثاني يوم السابع من يوليوز/تموز لدرء خطر التجمع الوطني القادم؟ هذا احتمال وارد لكنه غير مؤكد، لأن نيران الماكرونيين مصوبة حاليا على جزء من الجبهة الشعبية، خصوصا “فرنسا المتمردة” بقيادة ميلونشون، ونيران هاته مصوبة نحو ماكرون، وهو ما سيجعل أي تحالف بعد ثلاثين من يونيو صعبا وربما صعبا للغاية.
مهما حصل ففرنسا ما بعد انتخابات صيف 2024 مرشحة لأن تصير أزماتها السياسية أكثر تعقيدا وغموضا، وأن الوضوح الذي يريده الرئيس ماكرون بعيد المنال. السيناريوهات هي حكومة بقيادة أقصى اليمين بمساندة جزء من الجمهوريين (وهو سيناريو محتمل)، أو تحالف بين الجبهة الشعبية والماكرونيين (سيناريو وارد لكنه صعب)، أو حكم أقلية ماكرونية مسانَدة من القوى السياسية حسب نوعية القوانين والسياسات واللجوء المنتظِم للفصل 49،3 لتمرير قانون المالية كل سنة في انتظار 2027 (وهذا سيناريو يعيد إنتاج الوضع الحالي ويعطي حكومة ضعيفة تظل تَئِنُّ تحت رحمة القصف ذات اليمين وذات الشمال). ما هو مؤكد هو أن هذه الانتخابات سوف لن تُخرِج فرنسا من نفق الأزمة السياسية التي تعيشها منذ سنوات، بل لربما سوف تزيد من تفاقمها، وهو نبأ غير سار لها ولأوروبا ولحلفائها في الغرب وعبر العالم.