عبد الحكيم خيران: هي في ظاهرها مجرد جمادات أُضفيت عليها صفة الذكاء، لكن في باطنها حركة دائبة لا تني، ينثال في طياتها الغث والسمين. تلازم الجميع ملازمة الظل ولا تكاد تفارق الصغير والكبير والشيب والشباب في أي وقت وحين.
تسللت عبر نافذة العولمة الكاسحة الجامحة، التي تلاحقت مظاهرها وتسارعت وتيرتها، ودبّت إلى كل بيت دون سابق تخطيط وتلاشت أمامها الفوارق الاجتماعية والتعليمية والثقافية، وغيرت نمط الحياة تغييرا جذريا وأحالت العيش وطعمه غير ما دأب عليه الناس، وغُبن الكثيرون في ظلها في نعمة الوقت الثمينة، ويوشك أن يُغبن الجميع من جرائها في نعمة الصحة أيضا.
استلبت البشر وسلبتهم خصوصياتهم عن وعي منهم أو غير وعي، وسحرت عقولهم واستدرجتهم –طوعا وكرها!-، فما استطاعوا بعدُ فكاكا ولا خلاصا من إسارها ولو حرصوا، فتشايخ الصبي وتصابى الشيخ …
حتى الجدات اللواتي ارتبط اسمهن في غابر الأزمان بسرد حكايا للصبيان تمهيدا للنوم صرن لا يفارقن الهاتف الذكي أو الجهاز اللوحي المرتبط بشبكة الإنترنت. فصار مشهدا مألوفا أن ينتبذن ركنا قصيا ليشاهدن بحماس ما يصلهن من فيديوهات وصور دون تحرٍّ، ولا يتوانين عن تقاسمها، منخرطات بدورهن في ما أسمته المتخصصة في علم الاجتماع بمعهد ماساتشوستس الأمريكي للتكنولوجيا شيري توركل “أسلوب إثبات الذات وإثبات الوجود من خلال مبدأ ‘أنا أشارك، إذن أنا موجود’”.
يُحكى أن …
يُحكى أن الراحل ستيف جوبز، مخترع جهاز الأيفون الذي شكّل فتحا مبينا في عالم التكنولوجيا وفتَح باب الهواتف “الذكية” المتطورة على مصراعيه، حرص على الدوام على ألا يملِّك أبناءه جهازا “ذكيا” وأن يحول دون وقوعه في أيديهم، وعلى خطاه سار مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة بيل غيتس.
فهل كان مخترع الأيفون يدرك أن إبداعه الخارق، الذي سيغزو كل صقع من أصقاع المعمور وسيقتحم على الناس خلواتهم وجلواتهم، سينثر في صفوف الخليقة شرا مستطيرا وثبورا كثيرا، أم أن حدسه كان يحدثه بأن طريقة استعماله ستجعله كذلك؟ أيا يكن الجواب، فإن ذلك ما حدث بالفعل، وانتشر الشر المستطير انتشار النار في الهشيم بصفة قطعية لا سبيل إلى الرجوع عنها (كمثل الزجاجة كسرها لا يُشعب).
فبين الاستعمال وسوء الاستعمال، تعددت مظاهر تأثير هذه الجمادات النابضة بالحركة سلبا وإيجابا في أوصال المجتمع. فقد وسعت آفاق المعرفة والبحث والاطلاع، وجعلت كل المعارف أقرب إلى المرء من حبل الوريد، فكانت بمثابة مكتبة موسوعية عالمية في متناول اليد.
وجسدت المعنى الفعلي والحقيقي لكون العالم “قرية صغيرة”. فما يحدث في أقصى الأرض يصل نبؤه إلى أدناها قبل أن يرتد إلى المرء طرفه.
وكان من حسناتها أن قرّبت البعيد واختزلت الزمن والمسافات صوتا وصورة. وثبتت مزاياها ومنافعها الجمة في نمط التعليم عن بعد والعمل عن بعد خلال جائحة كوفيد-19 التي ألمت بجميع أقطار الأرض، وبذلك كفلت استمرارية الدراسة وانسيابية العمل بفضل مختلف المنصات التي تتيحها، وإمكانيات التراسل الآني بكل يسر.
وأسهمت هذه الأجهزة في تسهيل مناحي الحياة، إذ وفرت على الناس عناء التنقل لأداء الخدمات أو طلبها، وأتاحت طائفةً واسعة من التطبيقات المهمة التي لم تعد عنها مندوحة في تيسير العمل والأسفار والتعمق في العلوم والآداب، كما جعلت في متناول اليد قنوات تلفزية وإذاعات وتطبيقات تكفل المتابعة الآنية لما يستجد عبر العالم.
لكنها بقدر ما قرّبت البعيد فقد بعّدت القريب، فصار الآخر “بعيدا على قرب قريبا على بعد”، كما قال ابن الرومي في رثاء ابنه.
ومن سلبياتها الناجمة عن سوء الاستعمال أن أسهمت في تكلس المشاعر، إذ صار المرء يشاهد جريمة قتل بشعة ثم لا يلبث أن يغلق الشاشة دون أن يحرك فيه الحادث شيئا كأنه أمام مشهد سينمائي غير حقيقي.
وأشغلت الناس عن أنفسهم وصرفتهم عن كل مفيد، وخاصة فعل القراءة المغذي للعقل، فاتخذ الناس –أطفالا وشبابا وكبارا- الكتاب مهجورا ونبذوه وراء ظهورهم إلا قليلا منهم، وأشاعت في صفوفهم ثقافة “الواتساب” و”الفيسبوك”..
ورسخت الإدمان السلوكي، وتوشك أن تستعبد الجميع فتجردهم من ذكائهم أمام “ذكائها”. فامتشاق الجهاز في كل هنيهة فراغ يجعلنا “نفقد تلك اللحظة التي كنا نستغرق فيها في أحلام اليقظة أو في تأمل الذات”، بتعبير توركل. و”من الثابت أن تدفق الصور والكلمات لا يحفز الحس النقدي دائما”، كما يقول الكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف.
وسلبت الأطفال طفولتهم بما تنطوي عليه من براءة وطيش وحركة مفيدة للنمو، وأضعفت أبصارهم في مرحلة جد مبكرة. وأكسبت بعضهم عدوانية تصل أحيانا حد الانتحار أو ارتكاب جريمة قتل في حق الأصول أو الأقران بتأثير من مجرد لعبة افتراضية لا تلائم سنيهم الصغيرة ولا عقولهم الغضة ولا ملكاتهم التحليلية ومخيالهم الذي ما يزال في طور التشكُّل والنمو.
وأسهم سوء استعمالها في فساد أخلاق الشباب إلا من شذ منهم عن القاعدة، وجعل من بعضهم مجرمين وهم لا يشعرون، وأفقدهم بوصلة القيم وأنتج منهم جيلا “معطوبا” تجري على ألسنته لغة نشاز، وقذف بهم في غيابات تيه يتردد في جوفها صدى النداء الذي أطلقه الشاعر المغربي المدني الحمراوي قبل عقود، يوم لم يكن ما ضاع من صواب يبكيه بهذه الحدة والخطورة: “فأعدْ أيها الشباب صوابا .. كاد يفنى في غمرة التيار”.
وتحوّل “التواصل الاجتماعي” الذي بشّرت به إلى “تفاصل” حقيقي، فانفصمت الأواصر تماما أو تكاد وخلت صلة الرحم من كل مغزى وجداني، وتداعت بين ليلة وضحاها أركان بيوت كانت آمنة مطمئنة لأسباب فعلية أو لمجرد وجود شُبه، وصار الكثيرون والكثيرات يلهثون وراء مال سهل يدره ما أتاحته هذه الأجهزة من مواقع مفتوحة للعموم وخيارات للربح السريع، دون اعتبار للأعراض والأخلاق.
واستحالت مواقع “التواصل”، في كثير من الأحيان، إلى مراتع للطعن في الأعراض والقذف والابتزاز ولبث أخبار زائفة وإشاعات تتدفق كالنهر الجاري دون رادع من وازع أخلاقي أو مهني، وانخرم في ساحاتها وباحاتها كل ضابط أو قاعدة أخلاقية أو حتى عرفية، وانفلتت فيها حرية التعبير من كل عقال.
لا ينكر أستاذ علم النفس الاجتماعي، مصطفى الشكدالي، ما تنطوي عليه الأجهزة “الذكية” من منافع جمة ظهرت جليا خلال فترة الحجر الصحي عبر العالم خلال العام الماضي يوم كان مجموع الكرة الأرضية تقريبا تحت الحجر، فكانت هذه الأجهزة بمختلف أنواعها فضاء “عموميا” ووسيلة وحيدة للتواصل ولاستمرار العلاقات الاجتماعية والعمل والدراسة …
وشدد على أن كل تشخيص للإيجابيات والسلبيات لا يتعلق بهذه الأجهزة في حد ذاتها وإنما باستعمالاتها، “فاستعمالات التكنولوجيا قد كشفت مستوى معرفيتنا الاجتماعية، وهي استعمالات تقاس بمدى قدرة المجتمع على تمثل هذه التكنولوجيا وفهمها”.
وهذه الأجهزة، حسب السيد الشكدالي، تسائل المجتمع عن مدى امتلاكه “فكرا عقلانيا” يستخدمها في ما ينفع ويفيد، وما إن كان استخدامه لها يصب في اتجاهات سلبية تتمظهر في “عرض الذات والقضايا الحميمية والأحاديث التي يمكن أن ننعتها بـــ +التفاهة+”، والسعي وراء ما يُصطلح عليه بـ “البُوز” والسقوط في “المماثلة الرقمية” وفي “أنا الحشد الافتراضي” التي تفرز نفس السلوكات ويطغى عليها “التقليد الأعمى”.
انتشار واسع حتى لدى أطفال في سن غض ..
وفقا للبحث السنوي حول مؤشرات تكنولوجيا الإعلام والاتصال لدى الأسر والأفراد برسم سنة 2018، الذي أنجزته الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات سنة 2019، يملك 22.5 مليون مغربي هواتف ذكية، وهو ما يمثل 75.7 في المائة من المغاربة الذين يملكون هاتفا متنقلا.
وكشف البحث أن 92.4 في المائة من الأفراد في سن أكثر من خمس سنوات يملكون هاتفا ذكيا، وأن عدد من يملكون هاتفا ذكيا يرتفع سنويا بمقدار 1.2 مليون شخص، كما يسجل هذا المؤشر نموا يقدر بـــ 26 في المائة سنويا خلال السنوات السبع الأخيرة.
وتعد الشريحة العمرية ما بين 5 سنوات و39 سنة الأكثر امتلاكا للهاتف الذكي بنسبة تتراوح بين 80 و88 في المائة. كما يستعمل 94.7 في المائة من الأفراد الذين يملكون هاتفا ذكيا التطبيقات المحمولة.
وحسب تقرير “Digital 2020: Global Digital Overview”، فإن المغاربة يقضون نحو ساعتين و25 دقيقة في المعدل يوميا في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، بما يتجاوز قليلا المعدل العالمي (ساعتان و24 دقيقة).
ويمضي المغاربة في المعدل، بحسب التقرير ذاته، 3 ساعات و31 دقيقة لتصفح الإنترنت عبر الهاتف، أي أكثر من المعدل العالمي الذي يناهز 3 ساعات و22 دقيقة. ويناهز معدل الحسابات التي يملكها المغاربة في وسائل التواصل الاجتماعي 5.5 حسابات لكل متصفح.
دور الأسرة في الميزان ..
سلطت التحولات الكبيرة والكثيرة التي تمخضت عنها العولمة بوجه عام، والتكنولوجيا الحديثة وأوجه التعامل معها بوجه خاص، الضوء على دور الأسرة، باعتبارها المؤسسة والحاضنة الرئيسية لأطفال اليوم رجال الغد، وهو دور جوهري تكمّله المدرسة تربية وتوجيها وتأطيرا. فمن الثابت أن نوع التنشئة الأسرية يؤثر إلى حد بعيد في توجه الأجيال سلبا وإيجابا، وإن لم تكن هذه قاعدة مطردة.
فهل قصّرت الأسرة –بحكم المتغيرات التي طرأت على هذه المؤسسة في العقود الأخيرة وما أفرزته من تفكك أسري يزداد تفاقما- في تحصين الأطفال والشباب أمام مد جارف يستلزم تمنيعا وتحصينا أكثر من ذي قبل؟ أم أن الأسر باتت مغلوبة على أمرها في وجه سيل المتغيرات التي تستعصي معها الحلول وتعجز معها المقاربات؟
يرى الأستاذ الشكدالي، في حوار مع وكالة المغرب العربي للأنباء، أن الأسرة –ومعها المدرسة- ما زالت تضطلع بهذا الدور، بيد أن تأثير “المجتمع المرقمن” الذي هو نتاج التكنولوجيا الرقمية بات حقيقة واقعة داخل الأسرة، أي أن “التربية الوالدية التي كانت في السابق تشكل نموذجا يحتذى وناقلا لأفكار معينة إلى الأبناء شهدت تغيرات كبيرة بفعل المستجدات التكنولوجية المتلاحقة، بحيث باتت التصورات الثقافية والتصورات التي تحمل معاني مختلفة تنبع وتتدفق من المجتمع المرقمن، أي من هذه الوسائط الرقمية”.
ويلفت الباحث في علم النفس الاجتماعي، في هذا الصدد، إلى ما يُصطلح عليه اليوم بــ “الزمان الرقمي”، أي أن أطفال العالم الرقمي (digital natives) يعيشون زمانا سيكولوجيا ومعرفيا يختلف عن الزمان الذي يعيشه الآباء، وخاصة منهم من ظلوا يشتغلون بوسائل تقليدية في التنشئة والتربية، مما يخلق تفاوتات وفجوات على مستوى ثقافة الآباء والأبناء.
“فالطفل الذي عمره 15 عاما منها 10 سنوات في العالم الرقمي يتجاوز –رقميا- الأب الذي في عمره سنة رقمية واحدة، ومن ثم فالطفل هو من يعلّم الأب كيف يستعمل الوسائل الرقمية، وبالتالي بات الأطفال في كل مناحي الحياة الاجتماعية هم من يقومون بتنشئة اجتماعية رقمية ليُدخلوا آباءهم إلى عوالم هذه الثقافة التي باتت تسود المجتمعات الكونية بصفة عامة”.
المستقبل .. أسئلة وتحديات!
في كتابه “الهويات القاتلة”، الصادر عام 1998، يتساءل أمين معلوف في معرض تحليله لآثار التقدم التكنولوجي الذي تفرزه العولمة وما يستتبعه من تغيرات ثقافية بنيوية “أحدثت تحولات جذرية في حياتنا، خاصة في مجال الاتصال والوصول إلى المعرفة”: “هل سيكون المستقبل مستودع آمالنا أم كوابيسنا؟ هل سيكون قوامه الحرية أم الاستعباد؟ وهل سيكون العلم، في نهاية المطاف، أداة خلاصنا أم أداة دمارنا؟”
ولاحظ معلوف، والتقدم التكنولوجي يومئذ في بداياته ولمّا يشهد هذه الطفرة الهائلة التي تسارعت وتيرتها مع مطلع الألفية الجديدة، أن أوجه تأثير الاختراعات التكنولوجية الهائلة على مستقبل البشرية رهينة إلى حد بعيد بما ستصنعه منه.
“فبينما نحن مفتونون بالواقع الافتراضي، أخفقنا في التعامل مع الواقع الفعلي الذي نحيا فيه، ومن ثم كان لزاما أن نحقق التوازن بين مدى تأثير الواقع الافتراضي وبين كوننا نعيش داخل أجسادنا هذه وعلى أرض كوكبنا هذا. فهل سنخرج من العالم الافتراضي إلى الواقع ونساعد مجتمعاتنا الحقيقية لتكون كما ينبغي أن تكون؟”، تتساءل شيري توركل بدورها.
ففي ضوء التطورات التكنولوجية التي ما انفكت تعتمل في المجتمعات الكونية وتفرز تحولات ثقافية واجتماعية مطردة، ثمة حاجة ماسة إلى بلورة مقاربات تكفل التحصين والتمنيع تربويا وأخلاقيا وفكريا في وجه المؤثرات والمخاطر الخارجية المتعددة، وغرس ثقافة الاستعمال “الذكي” للأجهزة “الذكية” حاضرا ومستقبلا.
وفي هذا السياق، يشدد الأستاذ الشكدالي على أهمية التأطير، وسبيل ذلك، في تصوره، توسيع نطاق البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية، وخاصة علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، “حتى يتسنى الانتقال من طور الانفعال، بما هو إفراز لمكبوتات تطغى عليها في الغالب ردود الفعل والسب والقذف في ساحات شبكات التواصل الاجتماعي، إلى الفعل، ومن ثم ضبط استعمالاتنا للتكنولوجيا والارتقاء بها بما ينفع الفرد والمجتمع”.
الحدث. و م ع