وكشف السجال القائم بين تيارين سياسيين بارزين في المشهد السياسي اللبناني “تيار المستقبل” و”التيار الوطني الحر”، عن تعقيد مسار عملية تسمية رئيس وأعضاء الحكومة الجديدة المقبلة التي لم تخرج من عنق الزجاجة بعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في 29 أكتوبر الماضي.
ويرتبط هذا الجدل بالشروط والشروط المضادة للتيارين وباقي المكونات السياسية المؤثرة في الحقل السياسي والتي تؤخر ولادة الحكومة العتيدة خاصة في الشق المرتبط بالاتفاق على شكل الحكومة الذي يتخذ وجهات نظر بين حكومة تكنوقراط أو حكومة مختلطة تضم مستقلين وسياسيين وخبراء.
هذا السجال السياسي، الذي سيطر على دواليب وغرف المشاورات الجارية لعملية التشكيل، أدخل عملية التأليف في النفق المسدود وجعل الأزمة السياسية تراوح مكانها من دون أي بوادر لحل قريب خصوصا بعد الصخب الذي رافق سحب اسم وزير سابق من التداول لتشكيل حكومة جديدة تحت ضغط الشارع.
وكانت النقمة الشعبية قد تفاقمت بعد تسريبات وتصريحات قبل أيام أكدت توافق القوى السياسية الرئيسية في البلاد على تكليف وزير المالية السابق محمد الصفدي لتشكيل الحكومة، قبل بدء الاستشارات بموجب الدستور.
ومع ارتفاع أصوات المحتجين المطالبة بإسقاط الوجوه السياسية المألوفة اضطر محمد الصفدي إلى سحب إسمه من التداول كأحد الأسماء المرشحة لرئاسة حكومة لبنان.
وقال الصفدي في بيان، أول أمس السبت، إنه “من الصعب تشكيل حكومة متجانسة ومدعومة من جميع الفرقاء السياسيين، تمكنها من إتخاذ إجراءات إنقاذية فورية تضع حدا للتدهور الاقتصادي والمالي وتستجيب لتطلعات الناس في الشارع”.
وأمام هذا المستجد، جاء الرد سريعا من طرف سعد الحريري الذي قال إن وزير الخارجية جبران باسيل، هو من اقترح و”بإصرار” ترشيح محمد الصفدي، لتشكيل الحكومة المقبلة.
وقال المكتب الإعلامي للحريري في بيان، إن “باسيل هو من اقترح وبإصرار مرتين اسم الصفدي، وهو ما سارع الحريري إلى ابداء موافقته عليه، بعد أن كانت اقتراحاته تتعلق بأسماء من المجتمع المدني”.
وأضاف أنه “منذ أن طلب الصفدي سحب اسمه كمرشح لتشكيل الحكومة الجديدة، يمعن التيار الوطني الحر، في تحميل الحريري مسؤولية هذا الانسحاب، بحجة تراجعه عن وعود مقطوعة للوزير الصفدي”.
وحمل المكتب، التيار الوطني الحر، مسؤولية عدم تشكيل الحكومة، واصفا سياسته بأنها “غير مسؤولة، مقارنة بالأزمة الوطنية الكبرى التي يجتازها لبنان”.
غير أن رد ” حزب التيار الوطني الحر” على النبرة الحادة للحريري كان يوحي بنوع من التهدئة، حيث أكد الحزب ، الذي يرأسه جبران باسيل، على أهمية قيام حكومة قادرة على وقف الانهيار المالي ومنع الفوضى والفتنة، مشيرا إلى أن الفرص لا تزال متاحة أمام جميع القوى السياسية لإنقاذ لبنان.
وأضاف أن “الفجوة الكبيرة” التي سببتها استقالة الحريري، وضعت لبنان في مجهول أكبر، وأن التيار كان قد قدم كل التسهيلات لتشكيل الحكومة الجديدة، معتبرا أن إصرار الحريري على ترؤس حكومة من الاختصاصيين “تكنوقراط” تشير إلى تمسكه برئاسة الحكومة المقبلة.
ويرى المراقبون، في ظل هذا الجدل المحتدم، أن تعثر عملية تشكيل الحكومة الجديدة يعزى أساسا إلى توتر الأجواء بين زعيمي اثنين من الأحزاب الرئيسية في المشهد السياسي اللبناني (الحريري وباسيل) والذي يحتاج إلى وصفة سحرية للوصول الى اتفاق من شأنه تلطيف أجواء ولادة التشكيل الوزاري الجديد.
واعتبروا أن الوضع المتأزم بالبلاد يستدعي الترفع عن المصالح الشخصية وتغليب المصلحة العامة للذهاب إلى أفق إيجابي لعملية تشكيل الحكومة المرتقبة على اعتبار أن الوضع الاقتصادي والمالي الذي تشهده البلاد لا يحتمل استمرار الصراعات السياسية والتأخر في حصول التوافقات الحزبية من أجل إنقاذ البلاد والتجاوب مع مطالب الشارع.
ولاحظوا أن الايام القليلة المقبلة لا يتوقع لها أن تشهد تطورات بارزة، قبل استيعاب المضاعفات التي نجمت عن تسمية الصفدي في الشارع المنتفض على السلطة وعلى المستوى السياسي، مشيرين إلى أن انسحاب الصفدي كمرشح لتشكيل الحكومة الجديدة، يفرض على أجهزة السلطة اتخاذ مبادرة لتحديد مواعيد للكتل النيابية للقيام باستشارات ملزمة لتسمية الرئيس المكلف بتأليف الحكومة.
وأمام حرب البلاغات التي أعادت عملية تشكيل الحكومة الى نقطة الصفر، يبقى الارتباك السياسي السمة البارزة التي تطغى على مواقف الأطراف المعنية بتوفير مخرج لإنهاء الأزمة الحكومية، مما يعيد الكرة إلى رئيس الجمهورية ليتخذ مبادرة تحدث خرقا للحلقة المفرغة التي يدور فيها البلد الذي يرزح فيه تحت وطأة من الأزمات الاقتصادية والمالية غير المسبوقة.
و يأتي هذا السجال السياسي في وقت ارتفعت فيه وتيرة الاحتجاجات الشعبية التي تعم مختلف المناطق اللبنانية بعد مرور شهر من الانتفاضة المطالبة برحيل الطبقة السياسية ومعالجة القضايا الاقتصادية الراهنة.
ويخرج اللبنانيون إلى الشوارع والساحات العمومية في وسط بيروت وفي عدد من المدن اللبنانية للتعبير عن مطالبهم خاصة تشكيل حكومة إنقاذ من التكنوقراط، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة ، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية مع الدعوة لاسترداد الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين مؤكدين على استمرار تحركهم حتى تحقيق المطالب.
وتتزامن الأزمة السياسية مع وضع اقتصادي مترد للغاية وأزمة مالية، تجاوز معها سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق السوداء 1800 ليرة، بعدما كان مثبتا منذ عقود في 1507.
وبعد إغلاق دام أسبوعين على وقع الاحتجاجات، فتحت المصارف أبوابها بداية الشهر الحالي لأسبوع واحد فقط، فرضت خلاله إجراءات أكثر تشددا على بيع الدولار، ثم أغلقت ليومين بحجة عطلة رسمية.
وينفذ موظفوها منذ الثلاثاء الماضي إضرابا مفتوحا احتجاجا على إشكالات طرحت مع مواطنين يرغبون في سحب مبالغ من ودائعهم.
ويوم الجمعة الماضية، خفضت وكالة التصنيف الدولية “ستاندرد آند بورز” تصنيف لبنان إلى “سي سي سي” من “بي سلبي”، مع نظرة مستقبلية سلبية.
وحذرت من أن “اغلاق المصارف والقيود غير الرسمية على تحويل العملات الأجنبية تطرح تساؤلات حول استدامة سعر الصرف، الأمر الذي يزيد من تآكل الثقة”.
ويعاني لبنان، الذي يقدر دينه بأكثر من 86 مليار دولار، أي أكثر من 150 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، من نقص في تأمين الخدمات الرئيسية وترهل بنياته التحتية.
ومنذ 17 أكتوبر الماضي، تعيش البلاد على وتيرة حركة احتجاجية واسعة غير مسبوقة، شملت كل المناطق بمعزل عن الأحزاب والطوائف المتنوعة في البلاد.
ودفعت هذه المظاهرات رئيس الحكومة سعد الحريري الى الاستقالة في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، ولم تكلف بعد أي شخصية بتشكيل الحكومة الجديدة.