ويثير موضوع زراعة الأعضاء في العالم العديد من القضايا الأخلاقية، بما في ذلك تعريف الوفاة، والكيفية التي يتم بها تنظيم عملية التبرع والاستفادة من الأعضاء المتبرع بها، والقوانين المؤطرة لهذه المسألة بما ينسجم مع الواقع الثقافي والاجتماعي لكل مجتمع، وبما يحفظ صحة الإنسان وكرامتة، ولا يسيء لهذه المبادرة الإنسانية النبيلة أو يلوثها بممارسات التلاعب والمتاجرة فيها.
والمغرب من الدول الموقعة على إعلان إسطنبول للتبرع بالأعضاء وملتزم ببنوده ومبادئه الأخلاقية، كما أنه من البلدان العربية السباقة في مجال تقنين التبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية من خلال سن قانون رقم 16-98 الصادر سنة 1999، والمتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها، وذلك من أجل سد الباب أمام كل ما من شأنه التلاعب بالأعضاء البشرية والاتجار فيها.
ويرافق إثارة موضوع التبرع بالأعضاء البشرية تساؤلات من قبل المواطنين حول مدى مشروعيته الدينية، خصوصا وأن النصوص الدينية تحث بشدة على حفظ كرامة الإنسان حيا وميتا بغض النظر عن دينه حتى.
ويرى علماء الدين في المغرب وغيره من البلاد العربية والإسلامية أن الموضوع تجاوز مرحلة المساءلة الشرعية بعد إجماع المفتين من العلماء في العصر الحديث على إباحته، شرط ألا يؤدي إلى ضرر، بل اعتبروه صدقة جارية، حتى أن بعض المجامع الفقهية جعلته في حكم فرض كفاية، إن تركته الأمة فهي آثمة، وذلك وفقا لما أكده رئيس المجلس العلمي المحلي بوجدة، وعضو المجلس العلمي الأعلى مصطفى بنحمزة في تصريح سابق حول الموضوع.
وفي هذا السياق، أوضح رئيس المجلس العلمي المحلي بالرباط، السيد عبد الله اكديرة، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن الفلسفة المقاصدية للشريعة الإسلامية تقوم على تكريم الله للإنسان في شموليته وحفظه في نفسه وكل ما يتعلق به، بما يجعله أقدر على القيام بواجباته الدينية والدنيوية.
وأضاف أنه “إذا أصيب الإنسان في أحد أعضائه مما يؤذيه في نفسه وخلقته ويخل بحياته الطبيعة، فمن الكرامة أن يعاد تقويم هذه الخلقة بما يسويها ويعدلها”، مشيرا إلى أن “العلماء أجازوا تبرع إنسان حي بأحد أعضائه لكي يعيد لأخيه الإنسان سواء خلقه لكن بشرط ألا يتشوه هو أو يتضرر من ذلك، وألا يكون هذا الأمر موضوع بيع وشراء أو متاجرة”.
أما بالنسبة للإنسان الميت، يتابع السيد عبد الله اكديرة “فيجوز له أن يوصي بتبرعه بأعضائه من خلال تنازل شرعي معترف به وموثوق به ومأمون ليس فيه ضرر ولا إساءة للإنسان، وذلك تحت إشراف لجان متخصصة طبية وقانونية وأمنية معترف بها للبث في الأمر، بما لا يتنافى مع حفظ كرامة الميت، وبما يحمي جسده وأعضاءه من العبث أو التلاعب والمتاجرة بها”.
وعلى الصعيد الطبي، تقول البروفيسور ربيعة بيحيا رئيسة مصلحة أمراض وزراعة الكلي بالمركز الاستشفائي ابن سينا بالرباط، في حديث مماثل، إن التبرع بالأعضاء وزرع الأعضاء هو ميدان لا بد أن يكون متطورا في جميع البلدان وفي جميع البرامج الصحية، لأنه يظل الحل الوحيد في بعض الحالات (كفشل الكبد أو القلب…)، والتي تغيب فيها كيفية علاجية بديلة يمكن بواسطتها إنقاذ حياة مريض، مؤكدة أنه “بدون تبرع وبدون أعضاء، لا يمكن تحقيق تقدم في مجال زراعة الأعضاء”.
وأوضحت البروفيسور بيحيا، أن التبرع يكون إما من حي أو من ميت دماغيا، وأن عمليات الزرع في المغرب تتم وفق ضوابط قانونية صارمة، وتحت إشراف المجلس الاستشاري للتبرع وزرع الأعضاء والأنسجة وزرع الخلايا التابع لوزارة الصحة.
وذكرت في هذا السياق، أن المغرب لازال متأخرا في زراعة الأعضاء بسبب ضعف التبرع حتى في صفوف الأقرباء فيما بينهم (مثلا 70 في المائة من المرضى الذين يعالجون بتصفية الدم يرفض أقرباؤهم التبرع لهم بالكلي)، حيث لم تسجل سوى ثلاث عمليات لزراعة القلب، ونحو 20 عملية لزرع الكبد، و500 عملية لزرع الكلي (منها حوالي 30 عملية زرع لفائدة أطفال)، 90 بالمائة منها من متبرع حي، و10 في المائة من متبرع ميت دماغيا.
ولفتت إلى أن هذا الرقم غير كاف أمام تزايد عدد المصابين بالقصور الكلوي في المغرب، والذي يصل وفق الدراسات المنجزة إلى حوالي 30 ألف مواطن، 90 في المائة منهم يخضع للعلاج بغسيل الكلى الآلي (الدياليز)، و10 في المائة يعالجون بالغسيل البرتوني (تصفية الدم عن طريق حقن نسيج البطن أو ما يسمى الغشاء البريتوني بسوائل خاصة بإجراء قسطرة في جدار البطن، وإخراج السموم والسوائل الزائدة من الجسم في اتجاه أكياس معدة لذلك).
وأمام هذا التزايد، تقول الأخصائية، يتعين أن يكون ثلث مرضى القصور الكلوي على الأقل قد استفادوا من زرع الكلية بالمغرب، لاسيما وأن الدراسات أثبتت أن أحسن طريقة طبية لعلاج القصور الكلوي هي زراعة الكلية؛ إذ تمكن المريض المستفيد من العيش بشكل أفضل من الذين يعالجون عن طريق تصفية الدم، فضلا عن كونها أقل كلفة من الناحية الاقتصادية.
وحول أسباب ضعف التبرع بالمغرب، أشارت البروفيسور بيحيا إلى ضعف التعبئة والتواصل حول هذا الموضوع مع مكونات المجتمع المغربي، سواء داخل الأسر أو المدارس والإدارات والمستشفيات والجامعات والإعلام وجمعيات المجتمع المدني، مؤكدة أهمية تنظيم مزيد من الحملات التحسيسة للتعريف بالتبرع بالأعضاء وتسليط الضوء عليه، وإبراز حاجة المجتمع الملحة إليه لإنقاذ حياة المرضي.
وحول مخاوف المواطنين من المتاجرة بالأعضاء المتبرع بها، أكدت البروفيسور بيحيا عضو المجلس الاستشاري لزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية ومنسقة اللجنة الأخلاقية والقانونية بالمركز الاستشفائي ابن سينا، أن “مجال التبرع بالأعضاء وزراعتها بالرغم من تقدمه البطيء في المغرب؛ إلا أنه نظيف”، كما أن “مسار ومصير العضو المتبرع به من حي يكون واضحا ومعلوما منذ البداية لدى المانح والمستفيد”.
أما بالنسبة للتبرع من ميت دماغيا – تضيف السيدة بيحيا- فهناك لوائح انتظار لدى المصالح الطبية التابعة لوزارة الصحة البالغ عددها تسعة؛ والمخول لها وحدها زرع الأعضاء في الوقت الذي تتولى فيه لجنة خاصة بوزارة الصحة الجمع بين هذه اللوائح لتشكيل لائحة انتظار وطنية.
وأوضحت الأخصائية بيحيا أن وزارة الصحة تحدد معايير طبية موضوعية دقيقة لاستفادة المرضى من الأعضاء يجري اعتمادها من قبل المصالح الطبية المكلفة بالزرع على الصعيد الوطني بإشراف فريق طبي وباستخدام نظام معلوماتي يفرز الحالة التي تتوفر فيها الشروط الطبية المطلوبة بصرف النظر عن هوية الشخص، ويوقع محضر طبي بهذا الشأن لتعرض نتائجه على المسؤولين.
وبخصوص الحالات المعوزة التي وجدت متبرعا لكنها غير قادرة على تكاليف العملية والعلاج ما بعد الزرع، أوضحت البروفيسور بيحيا أن تكاليف التحاليل تتحملها المستشفى عبر بطاقة الراميد، أما بالنسبة لتكاليف العلاج ما بعد العملية، والذي على المريض الالتزام بأخذه مدى الحياة، ينظر في مساعدته بالتعاون مع الجمعيات والمستشفى.
وفي هذا السياق، يقول السيد عبد الإله القباج رئيس الجمعية المغربية لذوي القصور الكلوي، وأحد المرضى بالقصور الكلوي، في حديث أجرته معه الوكالة أثناء خضوعه لحصة الدياليز، أنه مصاب بالمرض منذ 29 سنة، وأن معاناته دفعته لخوض “نضال طويل في إطار جمعيات المجتمع المدني من أجل دعم حقنا في الولوج إلى الصحة انتهت بقرار الحكومة عام 2004 بإنشاء 33 جناحا للعلاج بالدياليز على صعيد المغرب”.
وفي 2009، يتابع السيد القباج، تم توقيع اتفاقية شراكة ما بين القطاع الخاص ووزارة الصحة لسد الخصاص على مستوى الموارد البشرية من أطباء وممرضين، لكن المشكل، برأيه، لا زال مطروحا، خصوصا بالنسبة للمرضي الذين لا يتوفرون على التغطية الصحية أو الراميد فيكون مصيرهم لائحة الانتظار، علما أن هذا المرض، يستطرد الفاعل الجمعوي، يستوجب العلاج الفوري أو اللجوء إلى المصحة وأداء تكلفة علاج تتراوح بين 700 إلى 800 درهم للحصة الواحدة من أصل حصتين أو ثلاث في الأسبوع، ناهيك عن الأدوية الأخرى التي يتناولها المريض.
وحول إمكانية وجود متبرع من أحد أقربائه لرفع هذه المعانات والقطع معها، أوضح السيد القباج أن الأدوية التي تعقب الزراعة مكلفة جدا (حوالي 7 آلاف درهم شهريا) والدولة لا تتحملها، في حين يتعين على المريض أخذها مدى الحياة لضمان عدم رفض جسمه للعضو المزروع، “وأنا غير قادر على تحملها، ولا أضمن أن أجد محسنا يتكفل بذلك مدى الحياة. وبالتالي فأنا مضطر للعلاج عن طريق الدياليز لأن الدولة على الأقل تتحمل تكاليفه”.
من جانبها، قالت السيدة ادريسية العكوري، وهي مريضة مصابة بالفشل الكلوي، “خضعت لعملية زرع الكلية وكانت ناجحة والحمد لله، بفضل كفاءة الفريق الطبي المشرف والمتابعة الطبية بعد العملية”، معبرة عن امتنانها لأختها الكبرى التي تبرعت لها بكليتها، والتي “يعود إليها الفضل في استرجاع حياتي الطبيعية ووضع حد لمعاناتي الطويلة مع حصص الدياليز الأسبوعية، وما يرافق ذلك من إرهاق جسدي ومن أمراض مرتبطة بالعلاج”.
ويكشف استقراء لآراء مواطنين حول التبرع بالأعضاء البشرية، أن الكثير منهم ليس لديهم إلمام بالموضوع، وحيثياته وشروطه والضمانات القانونية المحيطة به ومدى ضرورته المجتمعية والصحية، بل وحتى الدينية لإنقاذ حياة العديد من المرضى الذين لا علاج لهم سوى الزرع. مما يستلزم مزيدا من تكثيف التوعية والتحسيس عبر كافة الوسائل المتاحة، بغرض رفع الحواجز المعرفية والثقافية والنفسية التي تحول دون التبرع في مجتمع مغربي معروف بكرمه وسخائه.
ولعل تعزيز الولوج إلى الصحة وتحسين إمكانيات وظروف استقبال المرضي في المستشفيات العمومية، بما يحفظ كرامتهم وحقهم الطبيعي في الصحة، من شأنه أن يحفز المواطن كذلك على البذل والعطاء عند الحاجة إليه للتبرع بأعضائه حيا أو ميتا.
الحدث/ و م ع