هو إذن مشروع ملكي آخر ينضاف إلى عقد المشاريع الملكية الوازنة التي رأت النور خلال العشريتين الأخيرتين، والتي تستلهم فلسفتها ومطمحها وغايات إنجازها من إدراك مستنير ونظرة مولوية ثاقبة تكرس توجه المملكة الثابت نحو تبوأ الصدارة الإقليمية والقارية من حيث المنشآت والأرضيات اللوجستيكية والبنيات التحتية الأساسية، لا سيما الطرقية والسككية منها، اعتبارا لكونها آليات حيوية لا محيد عنها في تحقيق الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي المنشود.
فمنذ ترأس صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، لمراسم توقيع الاتفاقيات الست المتعلقة بمشروع القطار فائق السرعة الرابط بين مدينة البوغاز والحاضرة الاقتصادية للمملكة، في دجنبر 2010، انطلق المكتب الوطني للسكك الحديدية بمعية مختلف شركائه في مسيرة التنفيذ التي ابتدأت بتصفية الوعاء العقاري والشروع في إنجاز الخط المزدوج المكهرب وتهييئ قواعد الأشغال مرورا عبر بناء ورشة الصيانة بطنجة واقتناء 12 قطارا فائق السرعة، وصولا إلى تشييد المحطات السككية الكبرى بكل من طنجة والقنيطرة والرباط والدار البيضاء.
واليوم، يشهد الجميع على أن الجهود، التي انطلقت فعليا بتاريخ 29 شتنبر 2011، حينما أعطى جلالة الملك الانطلاقة الرسمية لأشغال خط القطار فائق السرعة بمعية الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، تتكلل بنجاح مشهود مع أول رحلة يقطعها “البراق”، وذلك بعد انقضاء فترة التجارب التقنية والتشغيل التجريبي ومرور مختلف مراحل المصادقة، بما يأذن بانتهاء مرحلة ما قبل الاستغلال وفتح الباب أمام الشروع في الاستغلال التجاري للمشروع ككل.
والأكيد أن التتبع الملكي الموصول لمختلف مراحل تنفيذ هذا الورش البنيوي الضخم، وحرص جلالة الملك الدقيق على أن يشكل القطار المغربي فائق السرعة واجهة مشرقة لمغرب الحداثة والتطور التكنولوجي، ينبع من الأهمية القصوى التي يكتسيها هذا المشروع من حيث أهميته الاقتصادية وحمولته الاجتماعية القوية وبعده الإيكولوجي النوعي، لا سيما أنه سيتيح تفادي انبعاث 20 ألف طن من الغازات الدفيئة في السنة.
ولقد شكل الـ 19 من شتنبر 2015 تاريخا حاسما في مسار إنجاز هذا المشروع السككي المتفرد، وذلك بإشراف جلالة الملك رفقة رئيس الجمهورية الفرنسية السابق فرانسوا هولاند على تدشين ورشة صيانة القطارات فائقة السرعة بطنجة، والتي تشكل لبنة أساسية في مشروع إنجاز هذا الخط الأول، الذي سيمكن المغرب من أن يصبح أول بلد إفريقي وعربي يمتلك منظومة للنقل السككي من مستوى تكنولوجي عال، بما يفسح الطريق أمام إنجازات مستقبلية ذات وقع كبير.
ويجدر، في هذا السياق، استحضار قوة ومتانة الشراكة القائمة بين المغرب وفرنسا على جميع الأصعدة، والتي كان من ثمارها الكثيرة خط القطار المغربي فائق السرعة الذي أنجز بتعاون وتنسيق وثيق مع الشركة الوطنية الفرنسية للسكك الحديدية وشركة “ألستوم” المصنعة للقطارات فائقة السرعة، بما يشهد مرة أخرى على نموذجية ومثالية العلاقات التي تربط البلدين.
إلا أن طموح المملكة لا يقف عند هذا الحد، ذلك أن هذا المشروع الضخم يندرج في إطار المخطط التوجيهي للخطوط فائقة السرعة الذي يروم إنجاز شبكة بطول يناهز 1500 كلم، والتي تتألف من المحور “الأطلسي” طنجة- الدار البيضاء- أكادير، والمحور “المغاربي” الرباط- فاس- وجدة، بما يؤشر على رؤية مستنيرة بعيدة المدى تروم جعل المغرب نقطة ربط إقليمي وقاري تتبدد فيها المسافات ويتصل فيها الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.
واليوم، سيكون بوسع المسافر قطع المسافة الرابطة بين طنجة والقنيطرة لتصبح 50 دقيقة عوض 3 ساعات و15 دقيقة، وبين طنجة والرباط في ساعة و20 دقيقة عوض 3 ساعات و45 دقيقة، وبين طنجة والدار البيضاء في ساعتين و10 دقائق عوض 4 ساعات و45 دقيقة، ما يجعل المملكة تنخرط بتألق في عصر السرعة ويمكنها من مسايرة ركب التطور التكنولوجي الذي أضحى أمرا لا محيد عنه.
والواضح أن جدوى اعتماد النقل متعدد الأنماط وإكراه حماية المنظومة البيئة وترشيد استعمال الموارد الطاقية، جعل من تكنولوجيا السرعة الفائقة الحل الأنجع والخيار الذي يندرج بشكل طبيعي في مسلسل تطوير شبكة السكك الحديدية الوطنية، والتي تفرض نفسها كوسيلة نقل الأشخاص الأكثر فعالية بالنسبة للمسافات المتوسطة والطويلة.
والأكيد أن القطار المغربي فائق السرعة “البراق”، أيقونة التطور التكنولوجي ورمز مغرب التقدم والحداثة، المنجز بسواعد المغاربة، يشكل تجسيدا بليغا لعزم ملكي راسخ على جعل المغرب يبلغ أسمى مدارج الرقي في شتى المجالات، وذلك في إطار مسيرة تنموية تسير بالسرعة القصوى نحو المستقبل، لكن بكل ثبات ووضوح في الرؤية.