لقد نقلت عدسات الصحافة العالمية عمليات الاحتجاج وحرق حاويات الأزبال في كل من باريس وليون وليل وبوردو ومرسيليا في مارس 2023، ونقلت خبر اعتقالات بالجملة للمحتجين ومنع السلطات لمسيرات والاحتجاج في ساحات معينة خاصة بباريس، وهي مشاهد تذكرنا باحتجاجات “السترات الصفراء” منذ سنة 2018 بالعديد من المدن الفرنسية؛ كما وثقت وسائل الإعلام مشاهد لاستعمال العنف المفرط ضد المحتجين من الطلبة والعمال وسكان الضواحي مما هـزّ صورة فرنسا حقوق الانسان وحرية التعبير وفرنسا ” الغرب المُعَـلِّـم”.
فالانتصار “الصغير” لحكومة “بورن” لا يعني نهاية كابوس الاحتجاجات، بل هناك آلـيات دستورية ومسارات قانونية تُمـكّـن المعارضة من التعبير عن رفضها ورغبتها في إلغاء القانون، كاللجوء للمحكمة الدستورية أولًا، ثم تنظيم استفتاء شعبي بتوقيع خُمُس النواب أي 185 نائبًا وجمع توقيعات عُـشُـر الناخبين أي حوالي 4,87 مليون ناخب.
وإذا كانت السيدة «اليزابيت بورن” قد نجت بصعوبة من تصويت حجب الثقة عن حكومتها يوم الإثنين 20 مارس بفارق 9 أصوات فقط، وتجنبت بالتالي إلغاء قانون إصلاح التقاعد وحل الحكومة وإدخال فرنسا في نفق سياسي واضطراب اجتماعي في ظروف عالمية مفصلية تتميز بحرب أوكرانيا وتحرك ديبلوماسي صيني غير مسبوق في افريقيا والخليج العربي، فإن نتائج التصويت حملت معها رسائل التصدع في تيـار حلفاء ماكرون غير المعلنين، أي الحزب الجمهوري. إذ تحدثت تقارير إعلامية عن تصويت 61 نائبا جمهوريا أو نصفهم ضد حجب الثقة عن الحكومة، لكن القول بأن الفارق كان هو 9 فقط هو تـمـدد لرقعة الرافضين حتى داخل من أعلن عن نيته للتصويت لصالح قانون إصلاح التقاعد.
من المعروف أن سن التقاعد بفرنسا هو الأقل مقارنة مع بعض الدول الأوروبية بالإضافة الى الكلفة المالية والاقتصادية لسن التقاعد ارتباطًا مع الهندسة الديمغرافية الفرنسية، ينضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة التضخم ونزول نسبة البطالة الى 7%. لكننا نعتقد أن كل من الرئيس الفرنسي ماكرون والمعارضة السياسية والمجتمعية يعرفون جيدا أن الأمر يتجاوز بكثير مجرد صراع سياسي حول ملف اجتماعي واقتصادي أي ملف التقاعد.
فكلا الفريقين على دراية بالمساطر الدستورية والقانونية للعـرقـلة أو لـتجاوز العرقلة، فهل مرجع الاختلاف إذن هو شخصية “إيمانويل ماكرون” الذي يُـنْـعت برئيس الأغنياء مرة وبالرئيس ” المُتـوّج” مرة، و”بالملك لـويس” مراتٍ آخري؟ أم أن الصراع السياسي هو حول “الجمهورية الخامسة ” وضرورة تعويضها ب “السادسة” كما يطالب “جون لوك ميلونشون ” زعيم تحالف NUPES؟
لقد وصف اليساري “إيمانويل فالس” رئيس الحكومة في عهد الرئيس فرانسوا هولاند حيث كان يتولى ماكرون حقيبة المالية، الأزمة الحالية بكونها “أزمة أخلاقية “، معتبرا أنه كان من الأفضل تجاوز أساليب “القـوة” سواء في مواجهة المحتجين أو بتوظيف المادة 49-3، خاصة وأن هذه الازمة جاءت بعد الجولة “الفاشلة” للرئيس ماكرون بدول غرب افريقيا وما صاحبها من تغطية إعلامية ساخطة على فرنسا وتاريخ فرنسا بمستعمراتها، وعجـز الرئيس ماكرون عن “إنقــاذ مـاء وجه” فرنسـا خلال تلك الزيارات الافريقية.
في المقابل، كانت لتداعيات قانون التقاعد الجديد خلفيـة سياسية قوية لعودة نقاش صلاحيات الرئيس الفرنسي وعلاقته بالمؤسسات الأخرى، خاصة الحكومة والبرلمان، ومدى توفير دستـور 1958 الذي وضعه ديغول التوازن اللازم بين تلك المؤسسات؛ والتساؤل حول طبيعة النظام الرئاسي الفرنسي الذي يصفه البعض بأنه يجعل رئيس الجمهورية “ملكا” غير معلن. ويبقى التساؤل قائما هل ما تعيشه فرنسا اليوم يتعلق بمخاض سياسي لميلاد الجمهورية السادسة وإعلان توازن دستوري جديد يجيب على انتظارات المعارضة؟ مثل تقليص صلاحيات الرئيس كتعديل المادة 9 التي تسمح للرئيس بترأس المجلس الوزاري، والمادة 12 التي تخول له حل البرلمان بعد مشاورات غير ملزمة مع رئيس الحكومة ورئيسيْ الشيوخ والبرلمان، والمادة 16 وما تخوله من اتخاذ قرارات وسلطات استثنائية، ومواد آخري تتعلق بحرية تعيين الوزير الأول وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية (3 فيهم الرئيس)، أو حرية تحريك استفتاءات شعبية وغيرها…
لقـد عاد الحديث بقوة حول أسباب نزول الصلاحيات القوية لمؤسسة رئيس الجمهورية الفرنسية في دستور الجنرال ديغول سنة 1958، وكيف صاغها على مقاس شخصيته القيادية وتاريخه النضالي، ورغبته في تجاوز أسباب سقوط “الجمهورية الرابعة ” التي تميزت بسيطرة الأحزاب ومؤسسة البرلمان على المشهد السياسي ومشاكل تلك الفترة والحرب بالجزائر الفرنسية… لذلك اقترح سنة 1962 إجراء استفتاء دستوري حول الانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية، مما يقوي من شرعيته الشعبية أمام مؤسسة البرلمان؛ وهي نفس الشرعية التي يستمد منها ماكرون وغيره من الرؤساء الفرنسين السابقين لتبريـر كل توظيف للمادة 49-3 أي تبريـر حالات القفز على مؤسسة تمثيلية ديمقراطية من أجل تمرير قوانين تختلف حولها التصورات السياسية.
فالصراع اليوم في فرنسا إذن لا يمكن اختزاله فقط في صراع حول إصلاح نظام التقاعـد، بل هو صراع حول توازن الأدوار الدستورية للمؤسسات وحول إعادة توزيع السلط وتوازنها، وهو حاجة فرنسا الى تجاوز مرحلة الجنرال ديغول، على اعتبار أن تدبير الرئيس ماكرون الحالي يُهـدد بخسارة فرنسا لموقعها السياسي والاقتصادي كقائد في الاتحاد الأوروبي، وكشريك قوي بدول غرب إفريقيا وغيرها في شمال افريقيا والخليج العربي. كما يمهـد الطريق لليمين المتطرف نحو قصر الماليزي فـي الرئاسيات القادمة أمام تراجع الأحزاب التقليدية كاليسار والجمهوريين وانتكاسة حزب ماكرون في التشريعيات السابقة…