يعطي الأوروبيون لأنفسهم هذا الدور في وقت تتنامى فيه النزعات الشوفينية والشعبوية في بلدانهم، وتتقوى مظاهر العنصرية والتضييق على المهاجرين لدى شعوبهم، ويتم التطبيع مع العنصرية لدى الرأي العام وفي وسائل الإعلام وفي الفضاء العمومي، ويتم ترك المهاجرين في البحر لأسابيع رغم نداءات المنظمات غير الحكومية. هذا يُعيد إلى الأذهان محاولة تحضير شعوب الجنوب في زمن الاستعمار بموازاة مع وضع أنظمة تفريق عنصرية في البلدان المستعمَرة ونهب خيراتها وإفقار شعوبها وتقتيل أبنائها، بل تهجيرهم في إطار تجارة رقيق مربحة لم تعرف نهايتها إلا في القرن التاسع عشر.
إن «المهمة التحضيرية» التي قال بها الفرنسيون وبرروا بها التوسع الاستعماري خلال فترة الجمهورية الثالثة (1870 – 1940) بُنيت على ثنائيات «الأبيض» و«الأسود»، و«المتوحش» و«المتحضر»، كما بيَّن ذلك مؤرخون أمثال أوليفيي لاكور وميشال فوكو وويليام كوهن وميشال دوشي وغيرهم (انظر مقال بيرنيل لوج وماريون لوكلير «الاقتصاد السياسي في فرنسا والجذور الفكرية للمهمة التحضيرية في أفريقيا» في مجلة «القرن الثامن عشر» الفرنسية، 2011 – 2012. الرقم 44. ص117).
ضرورة التحضير هو مثل أعلى للجمهورية وللقيم التي بُنيت عليها الثورة الفرنسية، ولهذا فهو يأخذ بعداً كونياً حين تتم ترجمته إلى ضرورة تحضير الآخر (نفس المقال، ص117). «التحضير» كما تم تنفيذه في المشروع الاستعماري حدث عبر السيف والكتاب، عبر السلطة والفكر، عبر تراتبية قيمية جعلت مما هو أوروبي نموذجاً أعلى، وما هو أفريقي سُمْكٌ إثنوغرافي يثير إعجاب الأنثروبولوجيين يتم تتحيفه أو تدجينه أو إبادته.
لكن لماذا نتحدث هنا عن «الرجل الأبيض» وليس فقط عن الإنسان الغربي أو الأوروبي؟ إنها إشارة إلى القصيدة المشهورة «الحمل الثقيل للرجل الأبيض» للشاعر الإنجليزي روديارد كيبلينغ، التي نَظَمَها في 1899 ويدعو فيها الأميركيين إلى السيطرة على الفلبين (في خضمّ الحرب الفليبينية – الأميركية 1899 – 1902). إنها حمْلٌ ثقيل لأن البيض سيقومون بتضحيات جِسام من أجل «تحضير» الشعوب الأخرى غير الأوروبية. لقد أثَّرت هذه القصيدة بشكل كبير على نقاشات الكونغرس الأميركي آنذاك حول التدخل الأميركي في الفلبين، بل صارت نبراساً لمنظّري الإمبريالية الأميركية لمدة قرن من الزمن، وهي نفس المقولة التي تبناها المحافظون الجدد (بشكل ضمنيّ) إبان رئاسة جورج بوش الابن لتبرير التدخل في العراق والشرق الأوسط برمّته.
لقد أعطى شيتان صايني في مقاله بالإنجليزية «الحمل الثقيل للرجل الأبيض: تفوق البيض والمسيحية» (سكوب، مارس – آذار 2019) لهذه المقولة بُعْداً تبشيرياً. ففي القصيدة يتم وصف البيض على أنهم «حفدة جابيث الذي قال عنه النبي نوح إنه سينمّي الحضارة، بينما الأفارقة هم حفدة حام الذي يحمل لعنة عبودية الطبع» (المرجع نفسه).
في العصور الوسطى، يقول صايني، كانت هناك نظرية عنصرية تقول إن البشرة السوداء هي نقمة أصلها الذنب الأصلي لحام، وهي نفس النظرة التي سيطرت على العقول في زمن الاستعمار وكانت أحد المبررات الفكرية والآيديولوجية لتجارة الرق (المصدر نفسه). قصيدة كيبلينغ واضحة في تبنيها هذه النظرية، وهي إما مضمرة أو ظاهرة في الخطاب الإمبريالي الأميركي منذ أكثر من قرن من الزمن.
هل ما زالت هذه التراتبية موجودة في الأذهان لدى الإنسان الأوروبي، وهل يمكن القول إن القرارات التي تتخذها مؤسسات مثل البرلمان الأوروبي حول قضايا حقوق الإنسان في بلدان أخرى (مثلها مثل تقرير الخارجية الأميركية السنوي حول الموضوع نفسه) هي إعادة إنتاج للمهمة التحضيرية للرجل الأبيض أو مساهمة في الدفاع عن حقوق الإنسان والمبادئ الكونية المتفق عليه عبر ميكانيزمات واتفاقيات الأمم المتحدة؟
أظن أن مثل هذه القرارات والتقارير قد تكون في حد ذاتها مفيدة ولكنها من الناحية المسطرية والتقديرية والسياسية تنمّ عن نظرة متعالية تقترب من النيوكولونيالية. لنأخذ مثلاً قرار البرلمان الأوروبي حول حقوق الصحافة في المغرب، والذي أصدره يوم 19 يناير (كانون الثاني) 2023، هذا القرار لم يشر لا من بعيد ولا من قريب إلى دور البرلمان المغربي في مساءلة الحكومة حول هذه القضايا، ولا النقاش المجتمعي الدائر حول حرية الرأي، ولا تقارير منظمات المجتمع المدني التي تنتقد التضييق على حرية الصحافة، ولا آراء من يقولون إن الصحافيين غير منزَّهين عن جرائم مدنية فقط لأنهم ينتقدون النظام السياسي، ولا آراء النساء ضحايا الاعتداءات الجنسية المفترضة، إلى غير ذلك. هناك نقاش مجتمعي في المغرب له ما له وعليه ما عليه ولكنه موجود. بجَرَّة قلم يُصدر البرلمان الأوروبي قراراً كأن المغرب يعيش في غابٍ مظلم لا حقوق فيه ولا برلمان ولا مؤسسات. نعم هذه المؤسسات ليست لها نفس قوة المؤسسات الأوروبية، ولكنها تشتغل، وهناك حركية، وهناك تطور، وهناك نقاش.
إن تحقير هذه المؤسسات والضرب بدورها عرض الحائط يعني أنها ليست على مذاق الأوروبيين الثقافي والآيديولوجي. كأن الديمقراطية إذا لم تكن أوروبية فهي ليست كونية. تداخل الكوني والأوروبي هو فخ يسقط فيه حتى المدافعون عن حقوق الإنسان في دول الجنوب. التقوقع الإثني لأوروبا (والغرب بشكل عام) يجعلها تعد نفسها الأنموذج الأعلى للديمقراطية وحقوق الإنسان. وحين يتبنى هذا الموقف يساريون وخُضْر ومناهضون للرأسمالية يظهر التناقض بقوة أكثر: «نطالب بالمساواة ولكن من وجهة نظر أوروبية محضة. ما تقومون به أنتم شعوب الجنوب هو دون المثل الأعلى الأوروبي. ولكن لا تكْتَرِثوا. نحن هنا بالمرصاد للأنظمة التي تقمعكم. التحضير من شيمنا منذ قرون».
لقد علَّمنا التاريخ أنه مهما حاول الإنسان الغربي التظاهر بالمساواة واحترام الآخر، فإن طبيعته المتعالية سرعان ما تظهر من حيث لا يحتسب. انظر فقط كيف تعاملت وسائل الإعلام الأوروبية مع المهاجرين الأوكرانيين على أنهم أكثر حضارة من المهاجرين العراقيين والسوريين، أو كيف تهكم نجوم تلفزيون ألمان ودنماركيون على أمهات اللاعبين المغاربة في مونديال قطر وغيرها… نيوكولونيالية فكرية ترى في نمط العيش الأوروبي معياراً كونياً يتم عبره قياس «تقدم» الأمم الأخرى.